تقرير - فتحى درويش الضبع لا تزال
الحرب التي شهدتها البوسنة والهرسك في تسعينيات القرن الماضي، تلقي بثقلها وأعبائها
في يومنا هذا على الآلاف من "الأطفال المنسيين" أو "المجهولين"
في البوسنة، والذين ولدتهم نساء وفتيات تعرضن للاغتصاب خلال الحرب، ولم يُعرف آباؤهم
بعد.
ويروي
"جاسيك" قصة حياته هو ووالدته، حيث خرجت والدته من مدينتها التي تعرضت فيها
للاغتصاب، وبدأت تعيش في مدينة أخرى، وهناك ولد "جاسيك" وأمضى سنوات طفولته.
وبعد
عدة سنوات قضاها برفقة أمه في هذه المدينة، هاجرا إلى مدينة أخرى، ليبدأ هناك تعليمه
الذي لم يستمر سوى بضع سنين، إذ أنه اضطر إلى ترك المدرسة لسوء ما تعرض له فيها لكونه
من أطفال الحرب المجهولين.
لاحقا،
ومع زواج والدته برجل بوسني، بات هناك معين لـ "جاسيك" وأمه، شخص يحميهم،
ويكون أبا معنويا له.
ويتابع
جاسيك قصة حياته ومعاناته قائلا: "لاحقا، واصلت تعليمي في مدرسة أخرى، إلا أنني
لم أتخلص من المعاناة نفسها، ففي المدرسة الأولى كانوا يعيبون عليّ لعدم وجود أب لي،
أما هنا فيعيّروني لأن زوج والدتي ليس بوالدي الحقيقي. الأمر الذي دفع بأمي لإرسالي
إلى مسقط رأسها".
يقول
"جاسيك" إنه عندما بلغ سن الـ 14 تعرف على الحقيقة المرة حول عدم وجود أب
له، وذلك حينما سألوه عن اسم والده في المدرسة، فأجابهم أنه متوفى كما أخبرته بذلك
والدته من قبل.
وأضاف:
"حينها تحدثت أمي وأعطت المدرسة وثائق تثبت عدم وجود أب لي، أحسست بشعور غريب
انتابني. وبدأت حالتي النفسية تنتقل من سيئ إلى أسوأ، لدرجة أني بدأت أتلقى الدعم النفسي
من طبيب مختص، فقد تغيرت حياتي في 5 دقائق حين اكتشفت تلك الحقيقة".
وذكر
"جاسيك" أن والدته كانت تخشى من أن يشعر ابنها بالخجل من أم مثلها، فيما
هو كان يخشى من أن لا تحبه والدته كونه يذكرها باللحظات المأساوية التي عاشتها خلال
الحرب، والتي أدت بهم إلى ما هم عليه الآن.
وتابع:
"لكني فكرت ذات يوم بيني وبين نفسي، أنه ليس هناك ما يعيب علي وعلى والدتي، فالذي
حل بنا اليوم ليس ذنبي ولا ذنبها، فضلا عن أن والدتي لم تظهر لي سوى الحب والمودة في
سائر الأوقات، لذا بدأنا نتصالح مع أنفسنا، وأمضينا ما بين 3 و4 سنوات كي نتخطى هذه
الحالة النفسية المزرية".
وأوضح
أن جميع وثائقه الرسمية لا تحتوي على اسم الأب، ويوضع خط صغير على خانة الأب في تلك
الوثائق، معربا عن شعوره بالألم والحزن نتيجة هذا.
وأردف:
"لا أرغب على الإطلاق في معرفة والدي الحقيقي، لأني لا أعتبره إنسانا، ما قام
به لا يفعله من كان إنسانا بحق، كما أني لا أكنّ الكراهية تجاهه، لأن والدتي ربتني
بحيث لا أحمل الكراهية لأحد".
وأشار
"جاسيك" إلى وجوب الحديث حول هذه المأساة، نظرا لأن هناك الكثير من الأطفال
الذين يولدون الآن في مناطق الحروب، دون وجود قوانين تحميهم.
واختتم
بالقول: "شخصيا أنظر إلى النساء والفتيات اللواتي تعرضن للاغتصاب على أنهن بطلات،
لأنهن عشن الويلات خلال الحرب، ولا يزلن يعشن وزرها وآثارها حتى يومنا هذا، ما يجب
علينا هو إثبات أن ما حل بهن أمر لا يُعاب عليهن، بل يُعاب على من قاموا بذلك الفعل".
وبحسب
الإحصاءات حول الأطفال "المجهولين" أو "المنسيين" في البوسنة والهرسك،
فإن هناك ما بين ألفين إلى 4 آلاف طفل مجهول، وذلك نتيجة تعرض حوالي 50 ألف امرأة وفتاة
للاغتصاب خلال الحرب.
تجدر
الإشارة إلى أن القوات الصربية ارتكبت العديد من المجازر بحق مسلمين خلال ما عرف بفترة
حرب البوسنة التي بدأت عام 1992، وانتهت 1995 بعد توقيع اتفاقية دايتون، وتسببت في
إبادة أكثر من 300 ألف شخص باعتراف الأمم المتحدة، إضافة إلى اغتصاب الآلاف من النساء
المسلمات في البوسنة والهرسك.
ونتيجة
للحرب الدموية التي شهدتها، توجد في البوسنة والهرسك اليوم عائلات كثيرة دون أبناء،
وآلاف الأبناء من دون آباء.
ويعاني
"الأطفال المجهولون" أو "الأطفال المنسيون"، ويلات ونتائج تلك
الحرب المؤلمة حتى يومنا هذا، فلا أحد يعرف من هم، وما نسبهم، رغم أنهم متواجدون في
كل مكان من أنحاء البوسنة.
البوسني
أجنا جاسيك، واحد من بين الآلاف من أولئك الأطفال المفتقدين لآبائهم.
ولد
"جاسيك" عام 1993 في إحدى المدن البوسنية التي شهدت الحرب، ودرس علم النفس
كي يكون سندا وعونا لمن يتشاركون المصير نفسه معه ومع والدته، حيث يعمل الآن في سراييفو
لدى جمعية الأطفال المنسيين في الحرب.
ولدوا
لأمهات تعرضن للاغتصاب في بداية التسعينيات, أطفال بلا آباء رفضهم المجتمع بسبب جريمة
لم تقترفها أمهاتهم. الآن يرفع هؤلاء الأطفال - الشباب أصواتهم مطالبين المجتمع بالاعتراف
بهم كجزء منه.
ولا
تزال الفنادق والمستشفيات في البوسنة والهرسك التي تمت بداخلها عمليات اغتصاب وتعذيب
للمرضى النساء المسلمات تعمل بشكل طبيعي
وكأنها
شاهدة على جرائم الحرب التي ارتكبت في ذلك الوقت، إذ استخم الجنود الاغتصاب وسبل التعذيب
المختلفة كأسلحة حرب.
يعتقد
الخبراء أن ما بين 12،000 و50،000 امرأة تعرضن للاغتصاب خلال الحرب البوسنية.
وفي
العام 2001، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة حكما على ثلاثة من
صرب البوسنة بعد أن تأكدت مسألة لجوئهم للاغتصاب النظامي والاسترقاق الجنسي واعتبرتها
المحكمة للمرة الأولى جريمة ضد الإنسانية.
وتناضل
منظمة تسمى "žena
žrtva rata" - أو رابطة ضحايا الحرب من النساء - لتكوين
لوحة تذكارية مثبتة على الجدار الأمامي لموقع آخر لجرائم الحرب وهو فندق Vilina Vlas في Višegrad.
وقالت
باكيرا هاسيتش، إحدى مؤسسي المنظمة، إنه بناء على مقابلات مع الناجيات، تعرضت نحو
200 امراة للتعذيب في هذا الفندق.
وأضافت:
"كانت النساء مقيدين بأسرتهن بالكابلات وتعرضن للاغتصاب والتعذيب". وفي كثير
من الأحيان كان يمكن سماع صرخاتهن عبر الغرف، حتى إن بعضهن تعرضن للاغتصاب في حمام
سباحة المجمع.
اتهم
المدعي العام في محكمة سراييفو الجنرال الكندي المتقاعد لويس ماكنزي القائد السابق
لقوات حفظ السلام الدولية خلال حرب البوسنة (1992-1995) باغتصاب مسلمات بوسنيات.
وأعلن
مدعي محكمة سراييفو الإقليمية أن شهادات عدد من النساء يفدن أنه تردد مرارا على معسكر
اعتقال، وأنه لم يكن فقط شاهدا على عمليات اغتصاب بل "إنه اغتصب شخصيا نساء كن
سجينات لدى قوات صرب البوسنة".
وأكد
أولغ كافكا أن تحقيقا ضد ماكنزي فتح عام 1998 "لكننا لم نستوفه لأنه لم يجر استجوابه". ورفض كافكا كشف عدد النساء اللواتي
يتهمن الجنرال الكندي بالاغتصاب.
وأوضح أنه لا يمكن اتهام قائد قوات الأمم المتحدة
السابق قبل استجوابه من قبل القضاء المحلي.
وقد طلب القضاء البوسني مرارا من السلطات الكندية
الإذن باستجواب ماكنزي لكنه لم يتلق أي رد.
وأفادت الصحف البوسنية أن أكثر من 300 شخص منهم الكثير
من النساء كانوا معتقلين بمعسكر صونيا اعتبروا في عداد المفقودين.
واستقبل ماكنزي الذي يحظى باحترام كبير في كندا لدوره
في البوسنة، كبطل في بداية الحرب، لكن المسلمين الذين اعتبروه "مواليا للصرب"
رفضوه بعد ذلك.
وقاد ماكنزي القوات الأممية خلال الأشهر الثلاثة
الأولى من النزاع، وتم استبداله بعد توجيهه انتقادا شديدا لدور الأمم المتحدة في هذا
البلد.