نصر اكتوبر ... ذكريات ابى المحارب لا تنطفئ ابدا

  


بقلم : منى سعيد 

تمر خمسون عاماً على ذكرى نصر حرب اكتوبر هذه الأيام والتى تحمل داخلى ذكريات جميلة وانتصار جيشنا العظيم على اسرائيل وارتبطت تلك الذكريات لكونى من ابناء القوات المسلحة المصرية فوالدى رحمة الله عليه فهو من المحاربين القدامى للقوات المسلحة المصرية التحق بها متطوعا وخاض عددا من الحروب

لقد ذاق ابى مرارة النكسة قبل أن يذق انتصارات حرب أكتوبر 1973، خاض عددا من الحروب، ذهب إلى حرب اليمن 1962، ثم عاد وشارك في حرب 1967، ورغم الهزيمة الثقيلة، لم يتراجع ابى عن المشاركة في حرب أكتوبر 

 فكلما جاء هذا اليوم يمر امامى شريط من الانتصارات والانكسارات عندما كان ابى بالجيش وكيف كانت والدتى تتحمل غياب الزوج وتقوم بدور الام والاب وقت غياب ابى وعمله بالوحدة العسكرية وكيف كانت ترعانا كاطفال وحدها من مدارس وغيره 

 وقتها كنت طفلة صغيرة  كنت استقبل ابى انا واخوتى بالفرحة واللهفة وهو عائد من اجازته  وكان يتنقل بحكم عمله فى محافظات عديدة مرة الإسكندرية واخرى بالعريش سيناء واتذكر عندما كنا نلتف حوله انا واخوتى ليروى لنا كيف كانت النكسة وقتها والانكسار الذى شهدته مصر اثر حرب الاستنزاف التي اندلعت بين مصر وإسرائيل على ضفتي قناة السويس عندما وجهت إسرائيل مدرعاتها تجاه مدينة بور فؤاد لاحتلالها عام 1967، فتصدت لها قوة من الصاعقة المصرية واشتعلت العمليات العسكرية 

واستمرت الحرب لنحو ثلاث سنوات حتى انتهت عام 1970  

شارك ابى فى معركة شدوان ، ضمن حروب الاستنزاف وكانت هناك أوامر بالانسحاب تحسبا  لتحويل شدوان إلى كتلة من النار، وبالفعل حدث، ومن صدمة المنظر لم يستطع ابى النوم لايام وزملائه بالفرقة واصيبوا بصدمة بالجهاز العصبى وحكى لنا عن التسليح المستخدم  بعضه من بنادق كلاشنكوف قنابل يدوية وأخرى لا اتذكرها  

 من ضمن المشاهد للحرب التى رواها ابى لى اتذكر بعضا منها وقت اشتعال المعارك الحربية كان معه عددا من افراد الفرقة يتجهون نحو الصحراء اثناء الحرب وطارت رأس احد زملائه على الارض واخد يبكى ويحاول ان  يستوعب ماحدث ولكن كانت صرخات باقى الجنود تذكره بالاسراع حتى لايتعرض لسوء فاسرعوا مهرولين والمعركة دائرة والذخيرة معهم بدات تنفذ والضباب والدخان وصوت طلقات النار يعم المكان حتى هدأت اصوات ضرب الرصاص وساروا مسافات طويلة بلا اى مؤن معهم ففرغت زمزميات المياه لديهم واصبحوا يسيرون بضعف وهزل شديد وظهر عليهم الاعياء ولما يجدوا امامهم الا ان يشربوا البول حتى يكملوا السير واكمل ابى الحديث وصلنا ونحن نترنح وسقطنا على الارض وافقنا فوجدنا انفسنا لدى اهالى سيناء البدو فقدموا لنا  المياه واللبن واطعمونا 

وكانت دموع ابى تنهمر على فراق زملائه الشهداء عند تذكرهم ولكنه سرعان ما يستكمل حديثه بان الوطن لن يرحل ابدا 

وظل الجنود يحلمون بالنصر واسترداد كرامتهم  بعد سنوات من النكسة، ذاقوا فيها مرّ الهزيمة حتى جاء نصر اكتوبر

وعبرت القوات المصرية قناة السويس بنجاح وحطمت خط بارليف فكانت هذه الحرب مزيجا من تصدى مدن القناة الاسماعيليه والسويس وبورسعيد لقوات العدو وفشلت فى احتلالها وضرب اهلها اروع الأمثلة على الصمود وحقق الجيش المصري هدفه من الحرب بعبور قناة السويس وتدمير خط بارليف

واكمل ابى كانت الفترة من 1970 وحتى حرب اكتوبر "مشروع حرب حقيقي" فالسنوات الثلاث كانت تدريب تكتيكي على الأرض لتعليم القتال بالذخيرة وكيفية فتح خط المواجهة، وإصابة الأهداف المتحركة والثابتة بالصواريخ الحية

كانت الاستعدادات تتم والتدريب قبل الحرب هو ومجموعة من زملائه في سيناء، كانت هناك تكتيكات وتحركات غير عادية، وتجهيز مؤن وذخيرة ووقود بشكل لم سبق له مثيل، فعلموا أن الحرب على الأبواب، وعدوا الساعات انتظارًا للثأر وانتظار الاشارة بالتحرك والتمركز في موقع على طول خط القناة.

وكانت الحالة المعنوية للجنود في الأيام التي سبقت أكتوبر،  مرتفعة وخاصة ان توقيت الحرب جاء في شهر رمضان المبارك كما كانت غزوة بدر، ومرارة احتلال الأرض ترك في داخلهم هو  وزملائه غصة لا تزول إلا بالنصر، أو الشهادة.

وكانت المناورات تتم حتى استطاع  هو وزملائه كشف الأهداف واستطاعوا تدمير 5 دبابات ورأي امامه المعدن ينصهر من شدة انفجار الصواريخ 

هذا قليل من كثير مما تحملته امى وحدها اثناء وجود ابى بالجبهة فكانت لنا الام والاب والاسرة كلها فهى تذهب معنا للمدرسة وتتابع كولى امر وتقوم بإعداد الطعام واذا مرض احد من اخوتى كانت تسهر طول الليل وفى الصباح تحمل الاخ المريض وتوصل الاخرين لمدارسهم 

حتى اتذكر ونحن نسكن بيتنا فى اواخر الستينيات فى منطقة عين شمس وكانت المنطقة عبارة عن بيوت بالطوب اللبنى وحولها اشجار وزراعات ولا يسكنها الكثيرين الا عددا محدوداً من البيوت وهذا البيت الذى اشتراه ابى كان ارضا وسط الزراعة وبدات امى فى بناءه بمساعدة اخوالى وجدى لامى نظرا لغياب ابى بالجيش وكنت اشاهدهم وهم يرصون الطوب اللبنى ليصبح حائط كبير وكان ابى كلما جاء اجازة يشكر امى على ماتقوم به وقالت لى امى انه حتى فترة وجوده فى البيت  كان يفكر فى الحرب والجيش ولا يتذكر او يعرف أى منا في سنة كام في الدراسة كانت تسيطر عليه فكرة الانتصار بأى طريقة على العدو

 وكانت هناك حادثة تعرضنا لها وهى سرقة تلفزيون ابيض واسود تليمصر ليلا وكنا وحدنا صغارا انا واخوتى وامى وتسلل السارق وفى يده مسدس وجههه نحو وجه امى وهى متماسكة تحتضننا  وتكتم انفاسنا حتى لا يشعر اللص ويأذينا و يأخذ ما يريده ويهرب بسرعة من امامنا كانت اوقاتا عصيبة تحملنا فيها غياب الاب وعدم جوده معنا  

اصيب والدى بعدة جلطات بالمخ بعد انتهاء الحرب وبعد خروجه على المعاش متأثرا بالصدمات التى عاشها وقت الحرب وهول ما رآه 

كانت الحرب تحمل ابطالا منهم من صمد حتى شاهد النصر ومنهم من ضحى بروحه في سبيل وطنه ومنهم من اصيب اثناء الحرب واصبح من مصابى العمليات الحربية رحمة الله عليك يا ابى