عرض رضا عبد الرحمن "المصرية"..هل تظل رهانا رابحا؟ بقلم الراحل الفنان عز الدين نجيب
فى الوقت الذى كان أغلب الفنانين المصريين يفكون الارتباط مع تراثهم من الفن المصرى القديم ، الذى كان نبعا دافقا للأجيال السابقة حتى جيل الستينيات ، فإن الفنان المصور رضا عبد الرحمن - خريج كلية الفنون الجميلة بالمنيا مع أول دفعاتها فى الثمانينيات - ظل وفيا فى جميع معارضه السابقة بمصر لجماليات وأستاذية هذا الفن حتى بات قدس أقداسه ومنبع إلهامه وقاربه الذى يسبح به عكس التيار، فى عصر يرفع شعار: انسف حمامك القديم!..أقصد يدير ظهره للتراث ومنبع الحضارة، ويلهث خلف موجات التغريب ويحاكى كل ما تأتى به أمواج الحداثة بشوائبها قبل لآلئها.
وشاءت أقداره أن تأخذه إلى قلب أمريكا المحرك لهذه الأمواج طوال عشرات السنين الماضية ، فانتقل للعيش والعمل فيها. وتوجسنا من حدوث تحول لرؤيته الفنية والفكرية وقلنا: إلى متى يصمد أمام غول ما بعد الحداثة وما بعد بعد الحداثة، محتفظا فى وجدانه بلؤلؤته المصرية الخاصة؟!..سبع سنوات أمضاها هناك يشاهد ويتابع ويتفاعل ويتعلم ويرسم ، حتى عاد أخيرا محملا بحصاد كبير من اللوحات وأقام بها معرضه المقام حاليا بقاعة ياسين بالزمالك...فبماذا احتفظ من مخزون رؤاه القديمة؟..وعن ماذا تخلص منها؟..وماذا أضافه من جديد؟
الحق أنه ظل قابضا على لؤلؤته كالقابض على الجمر،
ربما لأنها كانت تميمته الحافظة لجوهره هناك
من التوهان والذوبان، فلا يزال يَنتَح من منابع
الفن المصرى القديم، وإن حاول المواءمة بينه وبين رؤى الحداثة، فترك وراءه فى مصر:
(أيقونية) هذا الفن وطابعه الكهنوتى والأُخروى ، واحتفظ بما يحمله من حس الخلود والسلام
والمحبة والفردوس على الارض، وبما يمثل الرمز والسحر وما وراء الواقع، ومن الناحية
التقنية احتفظ "بقيمة" فن الرسم كعنصر جوهرى للمصور مهما شطح بعيدا عن المشخصات،
وهذا يتضمن ما يحققه الخط من رقة وإيقاع وغنائية ومن حيل للإخفاء ومن تلاعب بالمنظور
الهندسى ومن تداخل مع ما تحته او بجواره، وما يوحى بمساحات الصمت والهمس والإيماء،
ثم أضاف تقنيات حداثية تتعايش مع عصر جديد يحتل التجريد المقاعد الأمامية فى محافله
الفنية.
يبدو الجديد فى معرض رضا الذى أطلق عليه عنوان
"حنين" هو اعتماده على اللوحات الصغيرة بألوان التمبرا، وجعل منها ساحات
لحوارات الخطوط الرقيقة النحيلة، باختزال شديد للتفاصيل، وبانتقلات حرة فى المنظور
الهندسى والخلط بين الأمامى والخلفى ، وبإحكام التكوين عبر العلاقات بين العناصر فى
وحدة عضوية.
ويتجلى فى هذه اللوحات الخروج على الثبات الكهنوتى
القديم، وعلى الرمزية العقائدية منتقلا إلى حالة تجمع بين الأبدية وحركية العصر وديناميكية
التطور، عبر مقابلات وتداخلات بالمزج النغمى بين ألحان متقابلة وأحيانا متضادة بين
الهارمونى والكونتربوينت بلغة الموسيقى.
الحنين جعل الرؤية أكثر رومانسية، بإضفاء غلالات
لونية شفافة وحالمة، كما جعل الخطوط أكثر ليونة وانسيابية، وجعلها أحيانا مخاتلة ومخادعة
تظهر وتختفى فى ومضات فجائية. وفى محاولة السيطرة على الذكريات الهاربة يعمد الفنان
إلى اعتقالها فى أطر غليظة مستطيلة او بيضاوية أو بين بين، وأحيانا يلجأ إلى تأكيد
الخطوط عن طريق جعلها بيضاء فوق أرضية قاتمة كنوع من التحدى للنسيان ، وفى حالات أخرى
يجعل من الإطار محيطا لفتحة فى الجدار وكانه ينظر منها إلى المشهد المراوغ فى الفراغ.
وبقدر ما أشعلت الغربة وهج الحنين إلى الوطن بزيادة
تأثير الحلم والحس الغنائى الحزين كعزف منفرد على الناى أو الرباب، فقد ساعدته على
تحرير اللوحات من لزمات ولزوميات الفن المصرى القديم بتفاصيلها التى طالما سحرته وجعلته
دائرا فى فلكها، بهذا تخلص إلى حد كبير من
الموتيف الزخرفى، وإن بقيت من آثاره بقايا مثل الخط الزجزاجى كرمز للماء ومثل الاوضاع
الأيقونية الجانبية للأشخاص فى وقفة أو جلسةمستقيمة
بباروكات الشعر المقصوصة.
وساعده
الحنين كذلك على الاقتراب الحميم من التجريد، سواء للخطوط أو للمساحات، فيعيد بناء
المشهد برؤية بصرية تعتمد على التقابلات اللونية والضوئية، والاستعاضة عن التفاصيل
الواقعية ببقع أشبه بالعشوائية حينا الزخرفية والتجريدية حينا آخر ، ولو أوحت بأشكال
الزهور أو النجوم، ومع ذلك يعمد الفنان أحيانا إلى الجمع بين التجسيد والتجريد، لتأكيد
معنى النمو والتصاعد والسلام.
ألوان التمبرا التى رسم بها أغلب لوحاته لها فضل
كبير فى إضفاء جو الحلم بشفافيته وغموضه، كونها شقيقة الألوان المائية وقرينة التصوير
المصرى القديم، لكن إذا كان الفنان المصرى القديم قد سيطر عليها وأحالها إلى مساحات
صماء منبسطةتحددها خطوط خارجية، مع احتفاظها بالنصاعة والإشراق آلاف السنين، فقد أطلقها
رضا من عقالها وأحالها إلى موجات منسابة أو متوترة تتماهى وتتداخل بحرية.
لكن إذا كانت هذه التقنية ذات تأثير إيجابى على
اللوحات الصغيرة، فإنها لا تكون كذلك بالنسبة للوحات الجدارية العملاقة، فالمساحات
العريضة لا تسعفها مثل هذه الألوان الشفافة، بل تعتمد على التغطية الكثيفة بطبقات الألوان
غير الشفيفة، أو على شغلها بعناصر تشكيلية مجردة او مشخصة...لعل ذلك ما نقل إلىٌَ الإحساس
- وأنا أمام أغلب اللوحات الجدارية - بأنها كانت فى الأصل لوحات صغيرة ثم جرى تكبيرها،
والحقيقة أن كل مساحة تختار ما يناسبها من تكوين فنى بل ومن خامات تنفذ به.
ومع ذلك يبقى السؤال: هل يستطيع فنان مصرى أن يعيش
بفنه فى قلب الغرب وهو يراهن على هويته المصرية ليضمن الاعتراف به فى خضم موجات الحداثة
الغربية الكاسحة؟..أظن أن رضا يملك الشفرة والبشارة للفوز فى هذا السباق.