السويد: بلد الرفاهية الذي انتزع أبناءه من أحضان ذويهم؟

 


 بقلم :محمود الدبعي 

رئيس المنظمة الدولية للسلام والديمقراطية والمواطنة

في ذاكرة العالم، تظلّ السويد مرادفًا للعدالة الاجتماعية، الرفاهية، وكرامة الإنسان. دولة سطّرت نفسها في الوعي الجماعي على أنها الجنة الإسكندنافية التي لا يُظلم فيها أحد، حيث لا جائع يُترك، ولا مريض يُهمل، ولا طالب يُحرم من فرصته في العلم. بلدٌ احتلت مراتب متقدمة في مؤشرات السعادة والعدالة والشفافية، وأبهرت العالم بنظام ضريبي تكافلي يعود نفعه على الجميع، دون تمييز.

لكن خلف هذه الصورة البيضاء الناصعة، بدأ شقّ يتسع بصمت. شقّ تمثّل في قصص موجعة عن أطفال يُنتزعون من أسرهم، لا لجرم ارتكبوه، ولا لذنوبٍ ارتكبها أهلهم، بل بناءً على ما تعتبره الدولة “شبهات” تتعلق بسلامتهم، أو بما تراه خرقًا لمعاييرها في التربية والحماية. القصص التي خرجت من ضواحي المدن السويدية لم تكن مجرد همسات، بل صرخات بثتها وسائل التواصل الاجتماعي، نقلت صورًا وفيديوهات للحظاتٍ تمزّق القلب، لأطفال يُسحبون من أحضان أمهاتهم وآبائهم تحت أنظار كاميرات الدولة.

قانون حماية الطفل: من درع إلى سيف؟

تُعد السويد من أوائل الدول التي سنت قانون حماية الطفل (LVU) في سبعينيات القرن الماضي، وكان الهدف النبيل من هذا القانون هو حماية القُصّر من الإهمال أو العنف أو الاستغلال داخل أسرهم. لكن مع مرور العقود، وتزايد عدد السكان من خلفيات مهاجرة، بدأ القانون يُطبّق بطريقة تُثير الجدل، بل وتفتح أبواب الأسئلة الأخلاقية والحقوقية.

وفقًا لمركز المعلومات السويدي، بلغ عدد حالات سحب الأطفال من أسرهم في العام 2019 نحو 7900 حالة، منها 3100 طفل من أصول مهاجرة، مقابل 4800 طفل من أصول سويدية. لكن حين ندرك أن نسبة المهاجرين لا تتجاوز 24% من سكان السويد، يصبح جليًا أن الأطفال من أصول مهاجرة يُسحبون بمعدّل خمسة أضعاف مقارنةً بأقرانهم السويديين.

هذا التفاوت دفع الكثيرين للتساؤل: هل المشكلة في هذه الأسر؟ أم في فهم الدولة واختلافها الثقافي مع هذه العائلات؟

فجوة ثقافية عميقة بين عالمين

من يتابع رواية الدولة، يلاحظ أنها تدافع بشدة عن سياساتها، وتؤكد أنها تطبق نفس المعايير على الجميع، بغض النظر عن العرق أو الدين أو الجنسية. فهي تؤكد أن السحب لا يتم إلا في حالات تتعلق بـ”السلامة الجسدية والنفسية”، مثل الإهمال، العنف المنزلي، الشك في “جرائم الشرف”، أو إجبار الفتيات على الزواج، أو حرمانهن من الحرية الشخصية.

لكن في المقابل، ترى أسر مهاجرة أن هذه المعايير، وإن بدت نبيلة، تُطبّق من دون مراعاة السياق الثقافي والاجتماعي، وأحيانًا بناءً على بلاغات كيدية من مرشدين اجتماعيين، معلمين، أو حتى جيران. تقول إحدى الأمهات من أصول عربية:

“لم يُحققوا معنا، لم يسألونا، فقط سحبوا ابنتي بعد أن رفضت الخروج مساءً من دون إذن… قالوا إنني أقيّد حريتها!”

وفي ضوء هذا التصاعد، تأسست منظمات مثل “شبكة أهالي الأطفال المسحوبين”، تطالب بإعادة النظر في القوانين، والتحقيق في الانتهاكات التي يتعرض لها الأطفال داخل مراكز الإيواء أو لدى الأسر البديلة. فقد سجلت تقارير إعلامية مستقلة حوادث تحرش جنسي، وإهمال نفسي ولغوي، وانتحار أطفال، إلى جانب انفصال تام عن ثقافتهم الأصلية.

حرية التعبير… وحدود الكراهية؟

إلى جانب قانون حماية الطفل، طُعن نموذج السويد مرة أخرى عندما استخدم البعض قانون حرية التعبير كستار لشن حملات ممنهجة ضد الإسلام والمسلمين. من حرق المصاحف علنًا، إلى نشر الرسوم المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وصولًا إلى تنظيم تلك الأفعال أمام المساجد وفي الأحياء ذات الغالبية المسلمة.

الدولة، رغم إدانتها الرمزية لهذه الأفعال، وقفت عاجزة عن إيقافها بحجة “حرية التعبير”، ما فتح باب الكراهية، وأفقد ثقة آلاف المواطنين في عدالة الحياد القانوني، خصوصًا عندما يُفهم القانون خارج سياقه الأخلاقي.

تصدّع في سمعة السويد عالمياً

الضغوط لم تعد محلية فقط. فقد سلّطت قنوات عالمية الضوء على هذه الظاهرة، من خلال تقارير إنسانية صادمة، أبرزها ما أوردته قنوات عربية وأوروبية، حيث أظهرت شهادات لأسر فقدت أبناءها بغير رجعة، ووصفت حالات مأساوية دفعت ببعض الأمهات إلى الانتحار، أو الهرب من السويد فقط للحفاظ على وحدة أسرهن. وبعض الآباء ارتكبوا جرائم قتل ضد أطفالهم وانتحروا من شدة الألم.

السويد التي لا نعرفها…

السويد ليست بلدًا ظالمًا، ولا نظامها وحشي كما يُصور في بعض الزوايا. لكنها دولة وقعت في فخ الفجوة الثقافية، وسقطت بعض مؤسساتها في فخ الجمود البيروقراطي، حيث أصبحت القوانين تُنفّذ كأوامر، لا كمبادئ إنسانية. في عالمٍ متعدد الثقافات، يصبح من الضروري أن يُعاد تعريف المفاهيم مثل “الحماية” و”الحرية” و”الرفاهية”، لا من زاوية واحدة، بل من زاويتين على الأقل.

وفي النهاية، لا تُقاس عظمة الدول بعدد المؤسسات أو المساعدات، بل بمدى قدرتها على احتواء التنوع وحماية الأسرة باعتبارها الخلية الأساسية في أي مجتمع. والقصص التي تخرج من السويد اليوم، هي دعوة صادقة للمراجعة، لا للإدانة، دعوة لبناء نظام يضع الطفل في قلبه، لكن دون أن ينتزع قلب الطفل من صدر أمه.