عاطف الطيب في ذكراه الـ30.. المخرج الذي واجه السلطة بالكاميرا
في تاريخ السينما المصرية، قلّما برز مخرج ترك أثرًا عميقًا ومميزًا خلال فترة زمنية قصيرة كما فعل عاطف الطيب. فقد كان أحد أعمدة "الواقعية الجديدة" التي أضاءت شاشة السينما المصرية في الثمانينيات وأوائل التسعينيات، متناولًا قضايا الناس، المهمشين، والمظلومين، بلغة سينمائية صادقة وجريئة.
وُلد عاطف الطيب في 26 ديسمبر 1947 في محافظة سوهاج بصعيد مصر، وتربى في كنف أسرة صعيدية بسيطة. بعد إنهاء دراسته الثانوية، التحق بالمعهد العالي للسينما في القاهرة، قسم الإخراج، وتخرج منه عام 1970. وقد بدأ مسيرته الفنية كمساعد مخرج في عدد من الأفلام، منها العمل مع كبار المخرجين مثل يوسف شاهين وشادي عبد السلام، قبل أن يشق طريقه كمخرج مستقل.
الانطلاقة القوية: سينما تنبض بالواقع
جاءت انطلاقته الحقيقية في عام 1982 بفيلم "الغيرة القاتلة"، لكن الفيلم الذي أسس اسمه بقوة في الساحة الفنية كان "سواق الأتوبيس" (1982). الفيلم الذي نال استحسان الجمهور والنقاد على حد سواء، قدم صورة صادقة للطبقة الكادحة بعد الانفتاح الاقتصادي في مصر، وطرح تساؤلات جريئة عن قيم الشرف، المساءلة، والفساد الإداري.
عاطف الطيب لم يكن مجرد مخرج؛ بل كان ضميرًا حيًا يرصد هموم المواطن المصري البسيط، ويفضح تناقضات الواقع دون تزييف أو تجميل.
محطات فنية بارزة
خلال مسيرته القصيرة نسبيًا، أخرج 21 فيلمًا، العديد منها يُعد من علامات السينما المصرية. ومن أبرز أعماله:
"الحب فوق هضبة الهرم" (1986): عن قصة نجيب محفوظ، تناول التناقض بين الحب والطموح، في ظل ضغوط المجتمع المادي.
"البريء" (1986): بطولة أحمد زكي، ويُعد من أكثر أفلامه إثارة للجدل، حيث يناقش الانتهاكات الأمنية وغسيل العقول. تم منع عرض بعض مشاهده لسنوات.
"كشف المستور" (1994): فيلم سياسي جريء تناول قضايا الفساد في أجهزة الدولة، عُرض قبل شهور من وفاته.
"الهروب" (1991): قصة إنسان مضطهد يقع ضحية نظام غير عادل، لعب فيه أحمد زكي واحدًا من أبرز أدواره.
"ضد الحكومة" (1992): تناول قضية الإهمال في المؤسسات الرسمية، وتحوّل البطل من محامٍ انتهازي إلى ضمير أمة يصرخ: "كلنا فاسدون، لا أستثني أحدًا".
أسلوبه الفني وتميزه
عرف عن عاطف الطيب التزامه الواقعية القاسية، والجرأة في الطرح، مع أداء تمثيلي قوي، غالبًا ما كان يتعاون مع أحمد زكي ومجموعة من النجوم الذين شاركوه الرؤية. لم يكن يسعى للمجاملات أو للشهرة، بل كان يرى السينما وسيلة للتغيير والتنوير، فاختار دائمًا القضايا المسكوت عنها، والمهمشين الذين لا صوت لهم.
في عام 1995، رحل عاطف الطيب عن عالمنا إثر أزمة قلبية، وهو في قمة عطائه، عن عمر ناهز 47 عامًا. كانت وفاته صدمة كبيرة للوسط الفني، وللجمهور الذي وجد فيه صوتًا صادقًا لا يعرف المساومة.
ورغم رحيله المبكر، بقي اسمه حيًا بين عشاق السينما والمهتمين بالفن الجاد، إذ تُدرّس أفلامه في معاهد السينما، وتُعرض في المهرجانات كأمثلة على الفن الذي يجمع بين الإبداع والمسؤولية.
كتب عنه كبار النقاد مثل رجاء النقاش، طارق الشناوي، وسمير فريد، مؤكدين أنه "صوت السينما الحقيقي في زمن الزيف"، وأنه "كان يمكن أن يصبح من أعظم المخرجين العرب لو امتد به العمر". كذلك أصدرت بعض الجهات الثقافية كتبًا ومجلدات توثيقية عن مسيرته، مثل كتاب "عاطف الطيب.. السينما والواقع" الذي تناول تحليلات معمقة لأعماله.
لم يكن عاطف الطيب مجرد مخرج، بل كان ظاهرة فنية فريدة، لمعت بقوة في وقت قصير، وترك بصمة لا تمحى في وجدان من شاهدوا أفلامه. لقد قدّم سينما لا تنسى، كانت وما زالت مرآة لواقعنا، تنبض بالصدق، وتحمل رسالة لا تقلّ أهمية عن أي بيان سياسي أو اجتماعي.
عاطف الطيب ..التجلي الأخير لأبيدوس
بقلم . مصطفى فيصل
ليس مجرد مخرج بارع، ولا مجرد راوٍ للواقع المصري بعينه الحادة وأسلوبه الصادم، بل هو في جوهره امتداد حيّ لذاكرة مصر القديمة، لحجارة المعابد التي لم تروِ كل الحكايات بعد. عاطف الطيب لم يكن فقط ابن سوهاج، بل كان أحد أبنائها الأوفياء الذين ظلوا يعودون إليها في كل عمل، وكل قرار، وكل تجلٍّ فني.
أبيدوس هى الأسم القديم لسوهاج فى زمن المصريين القدماء، كانت معقلًا للهوية، للروح، للبعث . وفي زمن السينما، ظهر الطيب ليستكمل ما بدأه أجداده البناؤون، ولكن لا بالنقش على الجدران، بل بصناعة صورة حية متحركة تسكن الذاكرة الجمعية للمصريين.
حين أنشأ شركته الخاصة لإنتاج أحد أفلامه، "ملف في الآداب"، لم يختر لها اسمًا تجاريًا رنانًا، بل أسماها "فيلم أبيدوس"، في إشارة واعية منه لمعبد أبيدوس الشهير، الموجود في مسقط رأسه. لم يكن الاسم اختيارًا عابرًا، بل كان إعلانًا صريحًا أن جذوره ليست مجرد خلفية، بل دافع أساسي في اختياراته الفنية.
وحين كُلِّف بإخراج فيلم عن تنظيم الأسرة، لم يتجه إلى الأحياء الشعبية في القاهرة كما قد يفعل آخرون، بل عاد إلى سوهاج، إلى الجذور، وجعلها مسرحًا لأحداث فيلمه "عيل تايه يا ولاد الحلال". أراد أن يقول إن صعيد مصر، المنسي في السياسات والسينما، هو جزء لا يتجزأ من المعادلة، بل منبعها.
في فيلم "الهروب"، أحد أبرز علامات السينما المصرية في التسعينيات، لم تكن هوية البطل عشوائية. فقد اختار الطيب أن يكون منتصر من سوهاج. ليس لأنه فقط يعرف تفاصيل هذا المكان، ولكن لأن منتصر هو امتداد لأناس يعرفهم عاطف الطيب شخصيًا: الطيبون، المقهورون، المهمشون، الصادقون، أبناء أرض غنية بالتاريخ ومع ذلك يطاردهم الفقر والخذلان.
يبدو عاطف الطيب دائمًا كمن يسير وفي يده حجر من معبد قديم، لا لينحته، بل ليحمله إلى الشاشة. لو وُلد قبل آلاف السنين، لما أصبح مخرجًا، بل نحاتًا على جدران أبيدوس، يحفر حكايات الناس ، بمنتهى الأمانة والعشق.
هو ابن حضارة، لم ينس جذوره أبدًا، بل جعلها عمادًا لرؤيته الفنية. لقد كانت جذور عاطف الطيب وانتماؤه العميق للأرض المصرية، وهمومه بالإنسان المصري، خاصة القادم من صعيد مصر، هي المحرك الأساسي لإبداعه. وكأن الأجداد الذين شاركوا في بناء المعابد قد تركوا بصمتهم في روحه. لقد فهم أن السينما، كالمعبد، ليست مكانًا للزينة بل لتجلي الروح.
أبيدوس لم تكن مجرد اسم لشركة أنشأها، بل شفرة روحية وفكرية تصف مساره كله. هو التجلي الأخير لمدينةٍ حلمت أن تُروى حكاياتها يومًا، فجاء من رحمها من يعرف كيف يرويها... بالصورة والصمت والنظر العميق.