أحمد فؤاد درويش.. عبقري الوثائقيات أنقذته كلمة وخلّدته الكاميرا ... بقلم أحمد محارم
في زمنٍ باتت فيه الحكايات تُختصر في مشاهد عابرة، يظل اسم المخرج الكبير أحمد فؤاد درويش شاهدًا على عصرٍ لم يكن فيه الإبداع خيارًا، بل قدَرًا يُكتَب على جبين من اختاروا الفن طريقًا ورسالة.
رجلٌ إذا جلست معه، شعرت أنك في حضرة متحف حيّ، تنبض جدرانه بحكايات الزمن النقي؛ زمن الشغف لا الشهرة، والعطاء لا الأضواء.
في صيف 1969، لحظة واحدة كانت كفيلة بتحطيم مستقبله، لولا أن وقف في وجه العاصفة رجل بحجم وثقل المفكر الكبير ثروت عكاشة، وزير الثقافة آنذاك، وقال كلمته الخالدة التي غيّرت مسار كل شيء:
“الولد دا مش مجنون، الولد دا عبقري.”
ومن هنا، بدأ الحلم، ووُلدت الأسطورة من رحم التهديد بالإقصاء، وخرج درويش من نفق التهميش ليصبح أحد حرّاس الذاكرة البصرية لمصر، وواحدًا من روّاد الفن الوثائقي الحرّ؛ ذلك الفن الذي لا يُهادن، ولا يُجمّل، ولا يُزيّف، بل يروي الحكاية كما هي: بنبضها، بجمالها، وبوجعها.
وما بين العبقرية والتمرد، صنع درويش تاريخه الخاص، لا على ورق الجوائز ولا في حفلات التكريم، بل في وجدان كل من رأى في السينما ذاكرة وطن لا تُشترى.
كان الأول على دفعته بـ أكاديمية الفنون عام 1967، ضمن دفعة استثنائية أنجبت عمالقة مثل:
علي بدرخان، داوود عبد السيد، خيري بشارة، محمود الجندي، أنسي أبو سيف، ماهر راضي، شوقي صالح، وغيرهم من فرسان الصورة والكلمة.
ورغم أحقيته في أن يكون معيدًا بالأكاديمية، فإن طباعه المستقلة، وعناده الإبداعي، جعلاه خارج دائرة “المُرضي عنهم”. لكن القدر كان يعد له بابًا آخر، فالتقى بـ الدكتور عبد القادر حاتم، الذي آمن به، وأطلق عليه لقب “الولد العبقري”، وفتح له أبواب وزارة الثقافة، حيث بدأ مشواره الحقيقي، واقترب من قامات كان يحلم فقط برؤيتها، فإذا به يجلس معها وجهًا لوجه، زميلًا لا تابعًا.
أعماله لم تكن مجرد أفلام، بل وثائق حية تحفظ الذاكرة، وتحكي عن وطن، وتُوقظ الوعي.
أنتج العشرات من الأفلام التسجيلية، وجاب العالم من الصين وقطر إلى إيطاليا والبرتغال وألمانيا وكندا، حاصدًا الجوائز، وناحتًا لاسمه حضورًا لا يُنسى في ذاكرة الفن.
في كتابه المرجعي “50 عامًا من السينما”، الذي أعدّه الناقد محمد المالحي، تقف أمام تلخيص مدهش لمسيرة استثنائية، صنعتها الموهبة، والصدق، والحرية.
وقد كان لي شرف لقائه في الإسكندرية، مدينة العراقة والجمال، خلال فعالية أقيمت برفقة الصديق الناقد السينمائي سامي حلمي، حيث جلست إلى درويش كمن يستمع إلى أسطورة تُروى لأول مرة، رغم مرور الزمن، وكأنها تُعاد على وجدانك للمرة الألف.
أحمد فؤاد درويش ليس مجرد اسم في سجل السينما المصرية، بل هو ذاكرة تسير على قدمين، وفن نادر لا يتكرر.
هو الحكاية التي يجب أن تُروى، والدليل الحي على أن العبقرية لا تحب الأقفاص، بل تولد لتطير، وتُحلّق، وتُدهش العالم، وسيظل أمثاله شموعًا لا تنطفئ، ونقاط ضوء في أرشيف الفن المصري.
تحية تقدير من القلب لواحد من رجال الزمن الجميل، الذي صنع مجده من الصدق، وخلّد فنه في عيون من لا يزالون يؤمنون أن السينما حكاية وطن، لا سلعة سوق.
أحمد فؤاد درويش، ليس فقط مخرجًا، بل صفحة مضيئة في كتاب مصر الثقافي.
رجلٌ خُلق ليقول كلمته، ثم يسكت، ويتركنا نعيد قراءتها عشرات المرات، علّنا نفهم ما لم نرَه أول مرة
ختاما، هذا الرجل لا يحتاج إلى شهادة، بل إلى جناح دائم في متحف الفن الصادق، حيث تحفظ الذاكرة من النسيان.