هندسة الصمت ومصادرة المعنى سلطة التأويل من السوق إلى المقدس أ.د. ماريز يونس

 



في ظل المشهد العالمي المثقل بالموت وانهيار المعاني، تتصدّر الإبادة المستمرة في غزة ملامح المرحلة، حيث يتحوّل الجوع إلى احتضار معلن، ويُعرض الموت كواقع يومي مرئي، فيما تواصل منظومة الصمت تشكيل المشهد من جذوره. وفي إطار فهم هذا الصمت المدوي، تميل بعض التحليلات إلى استدعاء الثنائيات المألوفة بين "سقوط التنوير" أو “عودة البربرية"، بين "الضحية والهيمنة"، و"التطبيع وإعادة الاستعمار" إلخ، كسبيل لفهم ما يجري. إلا أن هذه الثنائيات تُبقي التحليل عند عتبة التجريد الأخلاقي، وتغفل عن البنية المعقّدة التي تعمل على "هندسة الصمت" وإعادة أنتاج الصوت من خلال منظومة متكاملة ومتشابكة تعمل على ترتيب الإدراك، وتوزيع الصوت والمعنى.

يتقدّم "النص" بمصادره المختلفة كأداة مركزية في هذه الهندسة: في الدولة الحديثة، يشكّل القانون والدستور أطرًا مرجعية للضبط؛ وفي المجتمعات التقليدية، تتصدّر الذاكرة الجمعية والعرف والعادات وفتاوى المرجعية الدينية أدوار التأويل والسيطرة. ومع ذلك، يتجاوز المشهد هذا التصنيف الثنائي، ففي لحظات الذروة الرمزية، كما في المجازر الجماعية التي تشهدها غزة، تتكثف النصوص وتتماهى. فحين تُعرض صور الإبادة، لا يُفعَّل القانون الدولي ولا تُستحضر مبادئ حقوق الإنسان، بل يُعاد توظيف الماضي والتراث والذاكرة–الذاكرة الغربية حول الهولوكوست ومعاداة السامية – كمرجعية أخلاقية أعلى من القانون ذاته، لتعيد ترسيم حدود الشرعية والانحياز. تتقدّم الذاكرة كسلطة، وتُقصى الحياة المعاشة لصالح خطاب تاريخي مؤسس، يتجاوز الحاضر ويدير المشهد بمنطق الموروث.

في المقابل، تُفعّل الكثير من الأنظمة الحاكمة، والعربية خصوصًا مفاهيم الحداثة – كالأمن والسيادة والمصلحة العامة – لتبرير قمع الأصوات، رغم غياب منظومة قانونية متكاملة أو مؤسسات ضامنة للحق في تلك المجتمعات. فتتحوّل النصوص القانونية من أدوات للعدالة إلى أدوات للتكميم، ويُعاد توجيه الرأي العام وفق منطق السيطرة، لا وفق منطق الحق.

هكذا، لا تُدار لحظة القتل من خارج النص، بل من داخل وفرة النصوص: كل مرجعية، سواء كانت قانونًا وضعيًا أو فتوى دينية أو خطابًا حقوقيًا، تُستخدم ضمن شبكة تشرعن الفعل، وتقصي الأصوات الأخرى، وتمنح الصوت الرسمي شرعية مطلقة. فالصوت الذي يملأ الفضاء لا يعلو لأنه الأصدق، بل لأنه الوحيد القادر على استدعاء الشرعية من كل النصوص، واحتكار المعنى في لحظة الصمت المصنّع.

تتجسّد منظومة "هندسة الصمت" في تداخل مزدوج بين النصوص والفاعلين. حيث تُفعَّل هذه النصوص ضمن شبكة معقّدة من الفاعلين المتعددين المستويات، الذين يتغير دورهم بحسب السياقات والمجتمعات. في السياق الليبرالي الغربي، تتقدم المؤسسات القضائية، ومنظمات المجتمع المدني، والهيئات الإعلامية، والشركات الاقتصادية والرقمية، بصفتها الفاعل الأساسي في إدارة النص القانوني وتوجيهه وفق مصالح السوق والهيمنة الرمزية. أما في السياقات العربية، فتتّخذ المرجعيات الدينية، والمؤسسات السيادية، والسلطات الإعلامية، موقعًا مركزيًا في استحضار النصوص الدينية والتقليدية لإعادة تشكيل حدود المباح والممنوع.

يتجاوز الفاعلون في هذه المنظومة الفصل التقليدي بين الحداثة والتقليد؛ فهم يستقون من مرجعيات متضادة ظاهريًا، فيعيدون تدوير مفاهيم الحداثة حين تخدمهم، ويستحضرون الشرعية التقليدية حين تمنحهم السيطرة. تتماهى أدوارهم بين لحظات التنوير ولحظات الاستدعاء الرمزي للذاكرة، بين حماية القانون وبين تأويل النصوص بوصفها ضمانة للشرعية الأخلاقية أو الدينية. وبهذا، تتشكّل منظومة "هندسة الصمت" من تواطؤ مزدوج: تواطؤ النصوص، وتواطؤ الفاعلين، في إنتاج مشهدٍ يبدو مألوفًا ظاهريًا، لكنه يتخفّى خلفه نظامٌ دقيق لإدارة الإدراك، وإعادة إنتاج الهيمنة.

رغم أن منظومة "هندسة الصمت" تمتد لتطال النسيج الاجتماعي بأكمله، وتشتبك مع مختلف الفئات والمؤسسات، إلا أن أكثر من يتعرّض لتقنيات الضبط والإقصاء هم ثلاث فئات مفصلية: الشباب، النساء، والمفكرون. هؤلاء لم يكونوا مجرّد ضحايا للهندسة الرمزية، بل شكّلوا خطرًا محتملًا على استقرار البنية السلطوية، نظرًا لما يمثّلونه من إمكانيات التفكيك أو التجاوز أو إعادة المعنى. تبدأ هذه الدينامية بوضوح في استهداف الفئة الشبابية، التي خضعت لإعادة ضبط عميقة، خصوصًا بعد اللحظة المؤسسة التي مثّلها "الربيع العربي". لقد تَمَّ تفكيك البنى التي أنتجت صوت الشباب، وقُمِعت إمكانياتهم الجماعية، وأُعيد إنتاج حضورهم ضمن قوالب مألوفة تُماهي السلطة أو تسكت تحت ضغط القمع أو تحيد في اتجاهات فردية أو راديكالية. فئة صمتت وهاجرت، وفئة استُدرجت إلى نصوص مرجعية بديلة صنعت لها مسارات تطرف، وفئة أخرى تماهت مع نص السلطة، فاكتسبت شرعية شكلية ضمن منظومات لا تعترف بها فعليًا.

في كل هذه الحالات، لم يجد الشباب في النص القانوني إطارًا فعّالًا للمطالبة بدولة عادلة، أو بمواطنة فاعلة، أو بحقوق دستورية. فالنص القانوني نفسه، الذي يُفترض أن يكون مظلّة للعدالة، صار أداة للإقصاء؛ يَستبعِد التعبير حين يُهدد النسق، ويُحاكم الفعل الشبابي بوصفه خروجًا على "النظام"، أو تهديدًا للأمن، أو تطاولًا على "المصلحة العامة". وهكذا، حين حلّت لحظة الإبادة في غزة، كانت البنية الرمزية القامعة للصوت الشبابي قد تشكّلت مسبقًا، ولم تعد تحتاج إلى هندسة جديدة للصمت، بل فقط إلى تشغيل ما هو قائم.

في المجتمعات الليبرالية الغربية، لم تُقمع الأصوات الشبابية بالقوة الصريحة، بل أُعيد تأطيرها ضمن آليات الضبط الناعم، حيث اندمج النص القانوني مع النص الديني واستُخدمت سرديات "الأمن الفكري"، و"معاداة السامية"، و"التحريض على الكراهية"، لتفريغ الاحتجاجات من مضمونها الأخلاقي. تحوّل حضور الطلاب في ساحات الجامعات من فعل تضامن إنساني إلى ملف أمني، تُدار خيوطه عبر مجالس تأديبية، ومنصات إعلامية، ولوائح قانونية. في هذا السياق، لم يُسكت الصوت الشبابي، بل أعيدت هندسته ضمن قوالب تُظهره كتهديد، وتُعيد إنتاجه كحالة تستدعي التدخل المؤسسي.

في هذا المناخ، تُمارَس الازدواجية ذاتها: النص الديني يُستحضر لتجريم التمرّد، والنص القانوني يُفعّل لمعاقبة الاحتجاج، والاثنان يُداران بتقاطع يُقصي الفعل الشبابي، ويُعيد إدراجه ضمن خطاب يُجرّمه أو يُفرغه. وهكذا يُطوّق صوت الشباب من كل الجهات، ليُعاد تشكيله ضمن سرديات لا تُربك السلطة، بل تخدمها، وتُظهر الشباب بوصفهم إمّا مهدّدين أو رموزًا ناعمة لخطط التمكين المُعلّبة.

تشكل النساء، الفئة الثانية الأكثر انكشافًا أمام آليات "هندسة الصمت"، لا فقط من خلال تقييد أصواتهن، بل من خلال إعادة تشكيل أجسادهن كرموز مشحونة بالمعاني السياسية والدينية والاجتماعية. في المشهد الليبرالي الذي طالما ادّعى ريادة مشروع تحرير المرأة، واحتفى بتاريخ طويل من النضالات النسوية، تتكشف اليوم مفارقة صارخة: إنّ المنظومات التي أسّست للحق، وغذّت خطاب العدالة الجندرية، تتوارى فجأة حين تتعرّى الحقيقة في غزة. فالمؤسسات والمنظمات التي تبنّت شعارات "التحرّر من العنف"، و"الحق في الجسد"، تصمت عند مشهد الأجساد المذبوحة تحت الركام، أجساد الحوامل المغتصبات، والأطفال الجائعين، والنساء المعذّبات بصمت مضاعف. ليس هذا الصمت عابرًا، بل هو نتاج هندسة دقيقة تدير الصوت وفق أجندات التمويل، والإعلام، والسوق.

تتضاعف المفارقة حين تُموّل مشاريع الدعم النفسي لمعالجة "العنف ضد المرأة" في غزة، لكن دون أن تُسجّل هذه المؤسسات موقفًا جديًا لوقف الإبادة، التي تشكل العنف الأكثر تطرفًا ضد الإنسان والمرأة معًا. هكذا، تتحول الحركات النسوية الليبرالية إلى أدوات لإدارة الصمت لا تفكيكه، حيث تتماهى مع هندسة الصوت التي تنتجها السلطة، لا مع مشروع مقاومة السلطة نفسها. فتبدو منظمات حقوق المرأة والعدالة الإنسانية في ظاهرها، متحررة ومُنفتحة، لكنها تعمل ضمن نسق دقيق من إعادة إنتاج الامتثال. تُدمَج النساء في الفضاء العام عبر مساحات محسوبة من التمثيل، تُنظَّم من خلال مؤشرات السوق، وأدوات الإعلام، وآليات الحقوق المؤسسية. ويُحتفى النساء الناجحات، لا لكونهن خرقن البنى القائمة، بل لأنهن ظهرن ضمن الصورة المرغوبة للمرأة الليبرالية القادرة على الأداء العالي ضمن شروط السوق. ويتشكّل الجسد النسائي، في هذا السياق، كمنصة للإقناع البصري، ويُعاد تشكيله من خلال عدسات الكاميرا، ومنصات التواصل، وأطر العمل القانونية. وتتحوّل حرية التعبير إلى حرية مشروطة بـ"القبول البصري"، إذ يُعاد ترميز الجسد ليحمل دلالة التوافق لا التمرّد. تُتاح حرية الجسد ما دامت متوافقة مع المظهر المطلوب: حرية رياضية، أنيقة، صحية، مثيرة، مؤهلة للإنتاج، وتروّج لنموذج اقتصادي واجتماعي مستقر.

لكن حين يظهر جسد لا يتناسب مع هذه المعايير – كجسد المرأة المحجّبة – يُعاد تصنيفه كعلامة رفض، أو كمصدر قلق رمزي يُقوّض الانسجام الليبرالي. في هذه الحالات، تُستدعى قيم الحياد والاندماج لا لتوسيع المجال العام، بل لضبطه. يُواجه الحجاب، بوصفه تمظهرًا دينيًا وجندريًا خاصًا، بموجة من التشكيك والتأطير، ويُقصى من الفضاء العام بحجة التعددية، بينما يُصاغ الجسد غير المحجّب كالنموذج الوحيد للمرأة "المدنية" أو "المنفتحة".

يُعاد تموضع الجسد المحجّب ضمن خطابات الأمن العام، أو الانضباط المدني، أو العلمانية، فتُصنّف النساء المحجّبات في بعض السياقات كبؤر توتر رمزي، لا كأجساد تعبّر عن خيارات فردية. في مدارس فرنسا، وفي مقار العمل ببعض الدول الأوروبية، تُفعل آليات إقصاء ناعمة للجسد المحجّب، يُحرَم من فرص التوظيف أو التعليم، ويُعاد تقديمه عبر عدسة التغريب، باعتباره حالة استثنائية تحتاج إلى معالجة قانونية. تُستخدم أدوات الدولة، لا لحماية التعدد، بل لإعادة توجيهه نحو معيار جسدي/ثقافي واحد، يحمل صفات واضحة: عَلماني، حيادي، مرن، قابل للتسويق.

بهذا الشكل، تتقدم الليبرالية الغربية كنظام لا يدير فقط الأصوات، بل يُهندس تمظهرها الجسدي. يُصبح الجسد هو البوابة إلى المجال العام، ومن لا يمتلك مفتاح هذا الجسد المصمم وفق منطق السوق، يُقصى من دون إعلان الحرب عليه، بل عبر آليات "الاندماج المشروط". ويتحول الصمت، في هذه الحالة، إلى نتيجة هندسية دقيقة: صمت المرأة التي لا تُسمع لأنها لا تُرى، أو تُرى خارج القالب المطلوب.

وفي المقابل، في السياقات العربية التقليدية، لا يختلف منطق السيطرة، وإن تغيرت أدواته. تُدار النساء عبر نصوص دينية وتراثية تُفعَّل بشكل انتقائي لخدمة هيكل السلطة. تُكرَّس المرأة كمركز رمزي للهُوية، ويُعاد تشكيل جسدها كموقع لـ"الضبط الأخلاقي"، ويُستدعى النص لردعها حين تنطق بما لا يتماشى مع النظام القائم. هذا النظام يُحتفي فيه بالمرأة الصامتة، الطائعة، التي لا تُربك التوازنات الذكورية. أما المرأة التي ترفع صوتها، فتوصف بالخطر الرمزي، ويُستدعى الدين لإخراجها من الشرعية.

لكن أكثر المفارقات تجليًا تتمثل في الحركات المقاومة التي تقود مشروع التحرر وترفق رايات العدالة والكرامة باسم النص الديني وتعلن ضرورة الجهاد لتحرير الإنسان من الاستعمار في غزة. نراها في لحظة أخرى عند حضور النساء، تستدعي النص الديني لإعادة تأويله بما يخدم استعباد النساء والتحكم بأجسادهن. فتعيد فيه هذه الحركات تفعيل النصوص ذاتها لإسكات النساء وضبط أجسادهن ومراقبتها. وهنا تُحوّل هذه الحركات، مسألة العدالة إلى مفهومية مزدوجة: مقاومة ضد العدو، تتيح للنساء رفع أصواتهن لمقاومة مشاريع الاستعمار والهيمنة والتبعية، وامتثال في الفضاء العام، يقمع أي جسد مقاوم ويشطنه من خلال استدعاء النص نفسه. وهنا يتكشّف الجسد النسائي كمكان الصدع بين النص والممارسة.

هكذا، يتقاطع الصمت الليبرالي مع الصمت الديني، وتتكامل "هندسة الصمت" في العالم بأسره: تُسمَع المرأة عندما تتكلم وفق المعيار، وتُقصى حين تعري السلطة. ويتحوّل الصوت إلى مشروع مملوك، والجسد إلى ميدان تهذيب، ويغدو التحرير مؤطَّرًا بمنطق الامتثال المقاومة.

تتجلّى الفئة الثالثة في بنية "هندسة الصمت" في النخبة الفكرية: الأكاديميون، الباحثون، والمفكرون، الذين شكّلوا عبر التاريخ الخطّ الأول لمساءلة السلطة وتفكيك بنيتها الرمزية والمعرفية. هؤلاء الذين نُفوا، عُذّبوا، وأُحرقوا في عصور ما قبل التنوير لمجرد التفكير خارج النص، هم أنفسهم اليوم يُدجّنون بصمت أنيق عبر أدوات أكثر حداثة: الخوارزميات، التمويل الأكاديمي، نظم التقييم المؤسسي، وضغوط السوق. لم تَعُد السلطة بحاجة إلى السجن والرقابة المباشرة، إذ يكفي أن تُعاد برمجة الصوت ليعلو فقط عندما يُنتج معرفة متماهية مع النظام: نظام السوق، النظام السياسي، أو النظام الديني.

ففي السياق الغربي، يتضح ذلك بجلاء في استهداف الأكاديميين الذين تجرأوا على نقد الإبادة في غزة. الجامعات التي لطالما ادّعت الحياد والحرية الأكاديمية، قطعت تمويلها، وفرضت رقابة على منشورات الأساتذة، وسكتت عن طرد الطلاب المتضامنين. في الولايات المتحدة، وفي جامعات كبرى في أوروبا وكندا، فُعّلت آليات "العقاب الرمزي"، عبر سحب المناصب والمنح والمنصات، لكل من كتب أو تحدث أو فكّك البنية العنيفة للاستعمار أو كشف نفاق الليبرالية في لحظة الإبادة.

أما المفكرون الذين انسجموا مع خطاب السلطة، واستدعوا نصوص "معاداة السامية" أو "الدفاع عن الدولة الحديثة"، فصعدت أصواتهم، وأُعيد تسويقهم كأوصياء على العقلانية والاعتدال. لم تُخضَع هذه النخبة بالقمع، بل بالاحتواء: احتواء الفكر في قوالب التسامح المدجّن، والمواطنة المفرغة من المضمون، والتعددية التي لا تحتمل صوتًا خارج الإطار.

وفي السياقات العربية، يتكرّر النمط بأدوات محلية. المفكرون الذين كانوا لقرون روّادًا في دعم قضية فلسطين، وتفكيك الخطابات الاستعمارية، باتوا اليوم يتماهون مع السلطة عبر استحضار نصوص حداثية تخدم خطاب الدولة الوطنية، بينما يعيشون تحت أنظمة لا تعترف لا بالمواطنة ولا بالقانون ولا بحرية الفكر. يُعيدون إنتاج خطاب الحداثة لا للتحرّر، بل لتبرير سلطات ما قبل الدولة. وهكذا، يتحوّل الفكر ذاته إلى أداة تهذيب، ويُدجَّن العقل تحت وهم التقدم، فيُسكت الصوت لا لأنّه معارض، بل لأنه لم يعد يُنتج إلا ما يناسب اللحظة السياسية والتمويلية.

إن أكثر ما يفضح هذه المفارقة اليوم هو لحظة غزة، حين أصبح الصمت الأكاديمي عالميًا، ممنهجًا، ويُدار بخوارزميات دقيقة تعاقب كل محاولة لتفكيك السردية الرسمية، أو لكشف العنف الممنهج ضد النساء، أو لتحليل بنية الإبادة بما هي أزمة كونية للعدالة. لم تعد السلطة اليوم وحدها من يقمع المفكر، بل صارت المنصات، أنظمة التوصية، المؤشرات الأكاديمية، وشركات النشر الكبرى، هي التي تُدير الصوت وتُهندس الصمت، وتُعيد صياغة المفهوم ذاته لما هو "معرفة مقبولة".

في امتداد هذا السياق، شكّلت المؤسسات الإعلامية، سواء التقليدية أو الرقمية، أداة مركزية في منظومة هندسة الصمت، حيث لم تكتف بعرض الوقائع، بل أدّت دورًا في مصادرة المعنى وإعادة إنتاجه وتوجيه الإدراك العام. عملت هذه المؤسسات على تأويل الأحداث، وانتقاء الصور، وتنسيق الأصوات داخل إطار رمزي يخدم السلطة، ويُعيد تنظيم الذاكرة الجماعية وفق سردية مضبوطة سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا. تحت غطاء "الموضوعية" و"المهنية"، صاغ الإعلام الغربي والعربي، خطابًا يُفرغ الحدث من دلالاته السياسية، ويحوّله إلى مادة بصرية أو قصصية خاضعة للضبط العاطفي. وتحوّل المثقف والإعلامي والفنان إلى عناصر فاعلة في هذه المنظومة، يعملون ضمن شروط إنتاج رمزي تُحدده سياسات التمويل، التقدير، النشر، والترويج، مما عزز اندماج الثقافة داخل ماكينة السلطة الرمزية.

تَمثّلت المنصات الرقمية في بُنية أكثر دقة لهندسة الصوت، من خلال اندماجها العميق بالخوارزميات، حيث باتت هذه المنصات تُعيد تنظيم المجال العام عبر أدوات التوصية، وأدوات الإظهار والإخفاء، وتوقيت النشر، ومحددات الانتشار. أنتج هذا الاندماج نظامًا ناعمًا لإدارة الحضور والغياب، تُوَزَّع فيه الأصوات وفق منطق السوق والسياسة لا وفق القيمة الأخلاقية أو الحقيقية للحدث. تعمل الخوارزميات على تصنيف المضامين، وتحديد ما يُقدّم على أنه تمثيل شرعي، وما يُحوَّل إلى هوامش غير مرئية. وبهذا، يصبح الإعلام، التقليدي والرقمي، الطرف الأبرز في تأويل النصوص وتظهير السلطة، ويشكّل الذراع الأكثر فاعلية في تثبيت بنية الصمت داخل الإدراك الجمعي.

تتكشف هذه المنظومة بكثافتها القصوى في لحظة الإبادة في غزة، حيث لا يتم حجب الجريمة، بل يتم تمريرها ضمن خطاب موزون، وصور منقّحة، ومفردات مختارة بعناية تُبقي المجازر في المجال العام لكنها تُفرغها من أثرها الأخلاقي. يُدار الجسد الفلسطيني كجسد يمكن رصده دون اعتباره أهلًا للنجاة، ويُعاد تأويل المعاناة بلغة "التوازن"، و"السلام"، و"الرد المشروع"، لتتحوّل الخسائر إلى أرقام، والصور إلى مشاهد مؤقتة تُدفن تحت سيل من توصيات الخوارزميات.

هكذا لا يُنتج الصمت من غياب الصوت، بل من كثرة الأصوات المهندَسة، التي تدور داخل بنية تأويلية تلتهم المعنى وتحيله إلى أداء. يُصبح النص – سواء دينيًا أو قانونيًا أو إعلاميًا – أداة للضبط لا للمساءلة، ويُعاد توظيفه بشكل انتقائي لإعادة إنتاج اللامرئي. في هذا التشابك، لا يتبدّد الصوت، بل يتحوّل إلى صدى داخل منظومة مغلقة تُعيد تمثيله وفق معايير السلطة.

تتشكّل بذلك سلطة جديدة تُمارَس بالبرمجة، وتنظيم الإدراك، وإعادة تشكيل الاحتجاج في زمن الخوارزميات والبرمجيات الرقمية. لذلك، لم يعد الصمت هو الفراغ، بل هو الأثر، وما تبقّى حين يُعاد إنتاج كل شيء ضمن معايير قابلة للتداول دون مراجعة. وهنا، تصبح المساءلة الأخلاقية ضرورة قصوى، لا لاستعادة الصوت فقط، بل لتفكيك منظومة "هندسة الصمت"، التي تُنتجه وتُخضعه في آنٍ معًا.

أستاذة علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية