فى ذكرى رحيله "محمود درويش"... شاعر الحلم الفلسطيني الذي جعل القصيدة وطنا"
تقرير
فتحي الضبع
في مثل هذا اليوم، طوى الغياب صفحة من أنقى صفحات الشعر العربي المعاصر، برحيل الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش. رحل الجسد، لكن الصوت بقي، والكلمات ظلّت ترفرف مثل علم على قمة جبل، تأبى أن تنكسر.
وُلد درويش عام 1941 في قرية البروة الجليلية، التي هُجّر منها وهو طفل بعد النكبة. تلك اللحظة لم تكن مجرد حدث عابر في حياته، بل كانت الجرح الأول الذي سيكتب عليه لاحقًا كل دواوينه. عاد مع عائلته إلى فلسطين بعد سنوات، ليجد قريته قد مُسحت عن الخريطة، وليكتشف مبكرًا أن الكلمة قد تكون بيتًا لمن فقد البيت، وأن القصيدة قد تكون وطنًا لمن حُرم من الوطن.
منذ ديوانه الأول، أرسى درويش مدرسة شعرية مغايرة، تمزج بين الرمزية والواقعية، بين الغضب الثوري والحس الإنساني العميق. لم يكن شاعرًا سياسيًا بالمعنى الضيق للكلمة، بل كان شاعر الإنسان، حيث تتحوّل فلسطين في قصائده إلى أم، إلى حبيبة، إلى أرض، إلى فكرة. قصيدته الشهيرة "سجّل أنا عربي" كانت إعلان هوية بقدر ما كانت صرخة كرامة، فيما تحوّلت "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" إلى نشيد حب للحياة رغم القيد.
في مسيرته، تنقل بين المنافي: موسكو، القاهرة، بيروت، باريس، عمّان، ورام الله. في كل محطة، كان يحمل فلسطين في حقيبته، وينثرها في قصائده. لم تقتصر شهرته على العالم العربي، بل وصلت إلى منصات الأدب العالمية، حيث تُرجمت أعماله إلى أكثر من عشرين لغة، وأشاد به نقّاد كبار في الغرب بوصفه واحدًا من أهم الأصوات الشعرية في عصرنا.
أصدقاؤه وزملاؤه من الأدباء يصفونه بأنه كان يمتلك قدرة نادرة على جعل القضية الفلسطينية شأنا إنسانيًا عالميًا، لا مجرد نزاع سياسي. الشاعر السوري أدونيس قال عنه: "كان محمود درويش يكتب كما لو أن الشعر آخر شكل من أشكال النجاة"، فيما وصفه المفكر إدوارد سعيد بأنه "حافظ الذاكرة الفلسطينية".
حتى في قصائد الحب، ظلّ درويش ثائرًا. كان يرى أن الحب هو أيضًا مقاومة، وأن الحنين إلى وجه الحبيبة يشبه الحنين إلى الوطن. ولذلك، كثيرًا ما وجد القارئ العربي نفسه في نصوصه، حتى لو لم يكن فلسطينيًا.
رحيله في التاسع من أغسطس 2008 أحدث فراغًا لا يُسد في المشهد الثقافي العربي. شيّعته رام الله في جنازة مهيبة، تحوّلت فيها شوارع المدينة إلى بحر من البشر، يرفعون صورته ويتلون أبياته، وكأنهم يشيّعون شاعرًا ووطنا في آن واحد.
لكن الإرث الذي تركه باقٍ: أكثر من ثلاثين ديوان شعر ونثر، ومئات القصائد التي تحيا في قلوب القرّاء. فمحمود درويش لم يكن يكتب ليُقرأ فقط، بل ليُحفظ ويُتداول، وليظل شاهدًا على أن الكلمة الحرة لا تموت.
اليوم، وبعد سنوات على رحيله، ما زالت قصائده تُدرّس، وتُغنّى، وتُستشهد بها في المظاهرات والميادين. وما زال اسمه يُذكر كلما ذُكرت فلسطين، لأنه اختار أن يكون شاعرًا للأرض، وشاعرًا للحب، وشاعرًا للإنسان.
إن كان الوطن هو المكان الذي نعود إليه، فإن قصائد محمود درويش هي الوطن الذي يعود إلينا.