"خُد مِنِ الحافِي نَعْلُه" بقلم: د. رامي لبيب علم الدين

 


من بين الأمثال الشعبية المصرية التي تحمل في طياتها مفارقة ساخرة، يبرز مثل "خُد مِنِ الحافِي نَعْلُه"، والذي قد يبدو في ظاهره مجرد طرفة لغوية، لكنه في جوهره تجسيدٌ لمأزق اجتماعي واقتصادي طالما عانت منه الفئات المستضعفة، فكيف يُمكن منطقيًا أن يُسلب النعل من شخص لا يملك حذاءً أصلًا؟ في ظاهرها، تبدو هذه العبارة المصرية الساخرة وكأنها مجرد طرفة، لكنها في جوهرها تعكس خللًا اجتماعيًا عميقًا، حيث يُستنزف الفقير رغم أنه لا يملك أصلًا ما يُنتزع منه، هذا الواقع ليس مجرد انطباع، بل تؤكده الدراسات والإحصاءات التي تكشف عن آليات الاستغلال المتكررة عبر التاريخ.


الثروات والفجوة الاقتصادية تشير بيانات البنك الدولي إلى أن 10% من سكان العالم يستحوذون على أكثر من 76% من الثروة العالمية، بينما يعيش نحو 50% من البشر على أقل من 2% من هذه الثروة، في مصر تبلغ نسبة الفقر وفق الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء حوالي 29.7%، أي أن نحو 30 مليون مواطن يعيشون تحت خط الفقر، فيما ترتفع هذه النسبة إلى أكثر من 50% في بعض المحافظات الريفية.


عدم تكافؤ الفرص والبطالة وفق تقرير منظمة العمل الدولية لعام 2023، يبلغ معدل البطالة العالمي 5.8%، لكنه يصل إلى 13% في الدول ذات الاقتصاديات الهشة، مما يعني أن الملايين يُحرمون من فرص العمل التي يمكن أن تخرجهم من دوامة الفقر، في الدول العربية، يعاني الشباب من معدلات بطالة مرتفعة تتجاوز 25%، مما يجعلهم أكثر عرضة للاستغلال بأجور متدنية وظروف غير إنسانية.


وفقًا لدراسة أُجريت على 500 شخص في الدول العربية، وجد أن 72% من المشاركين يعتقدون أن فقرهم "قدرٌ لا يمكن تغييره"، بينما يرى 28% أنه نتيجة لسياسات اقتصادية غير عادلة، التحليل اللغوي للخطاب الديني في 1000 خطبة جمعة بين عامي 2020 و2023 أظهر أن 60% منها يركّز على "الصبر على البلاء" دون التطرق إلى أهمية العمل والسعي، استخدام الأمثال الشعبية لتكريس القناعة بالفقر مَثَل "إِنْ حَضَرِ العِيش يِبْقَى المِشّ شَبْرَقَةْ" يعبّر عن مفهوم الحد الأدنى من الحياة دون طموحٍ للتحسّن، هذه الثقافة تؤدي إلى تقبّل الأوضاع الاقتصادية المدنية، حيث كشف استبيان على 2000 مواطن عربي أن 68% يعتقدون أن "الرزق مقسوم"، وبالتالي لا يسعون لتحسين أوضاعهم.


دور الحكومات والسياسات الاقتصادية في تكريس الظاهرة وتحسين أوضاع الطبقات الأكثر احتياج :

1. الإعفاءات الضريبية لرجال الأعمال مقابل الضرائب على الفقراء: في 2022، بلغ إجمالي الإعفاءات الضريبية للشركات الكبرى في مصر 110 مليار جنيه، بينما يدفع المواطن العادي ضرائب تصل إلى 25% من دخله السنوي، تُقدّر نسبة الضرائب غير المباشرة (التي يتحملها الفقراء بالأساس مثل ضريبة القيمة المضافة) بحوالي 50% من إجمالي الإيرادات الضريبية للدولة.


2. تحسين برامج الحماية الاجتماعية: رغم إطلاق برامج مثل "تكافل وكرامة" التي تدعم حوالي 5 مليون أسرة، إلا أن هذه المساعدات لا تكفي، إذ تبلغ قيمة الدعم الشهري للأسرة الفقيرة نحو 450 جنيهًا، وهو مبلغ لا يغطي حتى 20% من احتياجاتها الأساسية، مقارنة بالدول المتقدمة، فإن نسبة الإنفاق على الضمان الاجتماعي في الدول العربية لا تتجاوز 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل 15% في أوروبا.


3. تعزيز العدالة الضريبية فرض ضرائب تصاعدية على الثروات الكبرى يمكن أن يوفر للدولة موارد إضافية تقدر بـ 200 مليار جنيه سنويًا، تقليل الضرائب غير المباشرة التي تستنزف الفقراء، واستبدالها بأنظمة أكثر عدالة، إصلاح الخطاب الديني والتوعوية إعادة النظر في المناهج التعليمية والخطب الدينية بحيث تُرسّخ قيم السعي والعمل، بدلًا من تكريس الاستسلام للفقر، إنتاج محتوى إعلامي يعزز ثقافة الإنتاج وريادة الأعمال بدلًا من الاقتصار على الدعوات إلى القناعة.


4. تحفيز الاقتصاد الحقيقي بدلًا من الريعي، دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تساهم بـ 70% من التشغيل في بعض الدول النامية، لكن لا تزال تواجه تعقيدات بيروقراطية في العالم العربي، تشجيع التصنيع والزراعة بدلًا من الاعتماد على الاقتصاد الاستهلاكي.


مصر شهدت في السنوات الأخيرة عددًا من المشروعات الرئاسية التي تهدف إلى دعم الفئات الأكثر احتياجًا وتحسين مستوى معيشتهم، ضمن رؤية مصر 2030 لتحقيق التنمية المستدامة والعدالة الإجتماعية من أبرز هذه المشروعات:


1. حياة كريمة : أضخم مبادرة تنموية تستهدف تطوير القرى الأكثر إحتياجا، تشمل تحسين البنية التحتية، توفير خدمات صحية وتعليمية، وبناء مساكن جديدة، توفير فرص عمل ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة.


2. تكافل وكرامة : برنامج دعم نقدي للأسر الفقيرة وكبار السن وذوي الإعاقة، يهدف إلى تحسين مستوى المعيشة وضمان حياة كريمة للفئات الأكثر احتياجًا.

3. مشروع "سكن لكل المصريين" يهدف إلى توفير وحدات سكنية ميسرة للأسر منخفضة ومتوسطة الدخل، يشمل وحدات جاهزة بتسهيلات في الدفع ودعم مالي من الدولة.

4. 100 مليون صحة حملة قومية للكشف المبكر عن الأمراض المزمنة مثل فيروس سي والسكري والضغط، تقديم العلاج المجاني للفئات غير القادرة.

5. مبادرة التمويل العقاري لمحدودي ومتوسطي الدخل تقديم قروض ميسرة بفوائد منخفضة لتمكين المواطنين من امتلاك وحدات سكنية.


6. إحلال السيارات للعمل بالغاز الطبيعي دعم أصحاب السيارات القديمة لاستبدالها بأخرى تعمل بالغاز الطبيعي، مما يقلل التكلفة ويحسن البيئة.

7. مبادرة "بر أمان" لدعم صغار الصيادين تقديم دعم مالي وتأمين صحي للصيادين ولأسرهم، تحسين أدوات الصيد وتوفير مراكب مجهزة.


8. مشروع "مستورة" لدعم المرأة المعيلة تقديم قروض ميسرة للنساء لبدء مشروعات صغيرة تساعدهن على تحسين دخلهن.

9. دعم المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر تقديم قروض بفوائد مخفضة لمساعدة الشباب وأصحاب المشاريع الصغيرة، دعم الحرف اليدوية والصناعات المحلية.

10. مشروع تأهيل وتبطين الترع، تحسين شبكات الري لدعم صغار المزارعين وزيادة الإنتاجية الزراعية.

مَثَل "خُدْ مِنِ الحافِي نَعْلُه" ليس مجرد عبارة ساخرة، بل هو وصف دقيق لواقع اقتصادي واجتماعي تعيشه شرائح واسعة من المجتمع. بالأرقام، يتضح أن الفقر ليس قدرًا حتميًا، بل نتيجة لسياسات غير عادلة وثقافة تُكرّس الخنوع بدلًا من التحفيز على العمل. والحل يكمن في الإصلاح الاقتصادي، وإعادة تفسير القيم الدينية والاجتماعية بما يحث على التغيير لا الاستسلام، إن العدالة ليست مجرد حلم، بل هدف يمكن تحقيقه بوعيٍ مجتمعيّ، وقرارات جريئة، ومواجهةٍ حقيقية لمن يستغلون الفقراء سواء باسم القانون أو الدين.