الدكتور حسن الشناوي .. فلسفة الشفاء بقلم: أحمد فاضل

 

في عالم يزداد فيه الجسد حضورًا، والروح غيابًا، وفي زمنٍ أصبحت فيه مهنة الطب – عند كثيرين – ممارسة ميكانيكية تستند إلى الأرقام والأشعة والتقارير، تظهر بين الفينة والأخرى شخصيات لا تمارس الطب فحسب، بل تُعيد تعريفه.

من بين هؤلاء، يبرز اسم الدكتور حسن الشناوي، أستاذ أمراض الباطنة والجهاز الهضمي والكبد، الذي قابلته مؤخرًا في المنصورة، بعد انقطاع سنوات عن الوطن، لأجد فيه ليس فقط طبيبًا ماهرًا كما عهدته، بل مفكرًا وإنسانًا وأديبًا ومثقفا من الطراز الاول. 

لكنني اليوم، وأنا في إجازة قصيرة إلى مصر، شعرت بشيء يدفعني لزيارته، ولم يكن الأمر مجرد رغبة في الاطمئنان على صحة الجهاز الهضمي، بل شوقٌ لرؤية وجه قديم يختصر زمنًا جميلاً، وملامح ألفتها في زمن النقاء.

دخلت عيادته في شارع بورسعيد بالمنصورة 

وكم كان مدهشًا لي أن أجده كما هو لم يتغير، لم تأخذ منه الايام شيئا كما هو منذ عرفته حينما كنت طالبا في الجامعة، رأيته اليوم وكأن الزمن قد صافحه ومرَّ من أمامه بخجل دون أن يمس فيه شيئًا.

استقبلني ببشاشته المعهودة، ابتسامته لا تزال كما هي، صوته لم يتغير، وأسلوبه الذي يطبطب به على قلوب المرضى كما لو كان يحتضنهم بكلماته، لا يزال حاضرًا بقوة وحنوّ، فهو ليس مجرد طبيب يمارس الطب، بل عاشق لعلمه، متابع لكل جديد في مجاله،

يقرأ الدوريات العلمية العالمية، يتابع الأبحاث، يحضر المؤتمرات الدولية المتخصصة في أمراض الجهاز الهضمي والكبد، ويبحث عن الجديد كما لو أنه في بداية رحلته، لا في قمّتها.

يُدهشك كيف يجمع بين الحنان الإنساني، والاحتراف العلمي، والوعي القومي، والحضور الثقافي.

الشناوي الطبيب الإنسان الذي لم تغيّره السنوات، يزداد إشراقًا ونقاءً، ويُشعرك بأنك لا تدخل عيادة، بل تدخل إلى قلب إنسان حقيقي.

شاهدته من الشخصيات التي تقف على التخوم الدقيقة بين العلم والفلسفة، بين الجسد والمعنى، بين الوظيفة والرسالة.

ومن بين هؤلاء، يقف الدكتور حسن الشناوي شامخًا، لا بوصفه طبيبًا ماهرًا فحسب، بل كمفكر يحمل في داخله فهمًا عميقًا للطبيب بوصفه حارسًا للإنسان، لا لجسده وحده.

حين جلست أمامه بعد سنوات من الغياب، لم أكن أبحث فقط عن طمأنينة صحية،

كنت أبحث – دون أن أدري – عن وجه من وجوه الزمن الجميل، عن صوت هادئ وسط صخب العالم، عن حكمة تتجاوز تشخيص المرض إلى تشخيص واقع الإنسان والأمة.

الدكتور الشناوي لا ينظر إلى المريض كحالة طبية معزولة، بل ككائن معقّد، تحكمه تفاعلات بيولوجية ونفسية وثقافية في آنٍ واحد.

تراه ينظر في عينيك لا ليقرأ أعراض الجهاز الهضمي أو المعدة، بل ليقرأ ما تراكم فيك من تعب الحياة، من أوجاع الروح، من أسئلة الوجود.

هو الطبيب الذي لا تقف معرفته عند حدود الكُتب الطبية، بل يمتد أفقه ليشمل الفلسفة، والسياسة، والتاريخ، والوعي الجمعي العربي.

يُتابع الأبحاث العلمية العالمية كما يُتابع تقارير الصراع في الشرق الأوسط،

ويحلل ما تنشره الدوريات الطبية، كما يُفكك خطاب الإعلام الغربي.

في لقائي معه، وجدت نفسي أمام رجل لا يفصل بين العلم والحياة، ولا بين مهنة الطب ومهمة المثقف، ولا بين علاج الأجساد والنهوض بالروح وبالوعي.

ما إن جلست معه حتى شعرت أنني لا أراجع طبيبًا في أمراض الباطنة والكبد، بل أطرق باب رجلٍ يمارس الإصغاء لا بالسماعة الطبية فحسب، بل ببصيرة نادرة تُنصت لما لا يُقال

. في حديث امتد لأكثر من ٤٠ دقيقة، وجدتني أجلس أمام مثقف عميق يتحدث عن التحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، والصراع الإيراني الإسرائيلي، مواقف مصر والخليج، دور القوى الغربية، أزمة الثقافة العربية، وانحسار الوعي في زمن الاستهلاك.

يتكلم كأنك تقرأ مقالًا محكمًا في مجلة فكرية، أو تستمع إلى محاضرة هادئة من قلب نقي وعقل مفكر ومثقف كبير.

العيادة، رغم ازدحامها، بدت واحة هادئة.

كل شيء فيها ينبض بإيقاع غير عصري:

الابتسامة لا تزال صافية،

اللغة لا تزال إنسانية،

والزمن.. بدا وكأنه توقّف احترامًا لهذا الرجل الذي لم يلوثه الركض خلف التربّح أو الوجاهة الزائفة.

في لحظات قصيرة، انقلب اللقاء من استشارة طبية إلى حوارٍ في العمق الإنساني، ومسحٍ غير تقليدي لمفاصل الوجود:

 • كيف تدهورت العلاقة بين الطبيب والمريض؟

 • لماذا تراجعت الأخلاق قبل تراجع المناعة؟

 • كيف تحوّلت أمراض المعدة والكبد إلى مرآة لأمراض مجتمعية أعمق؟

 • وأين موقع الإنسان العربي وسط هذه العواصف الجيوسياسية والفكرية التي تلتهم الصحة والعقل والكرامة معًا؟

خلف لغته الهادئة، تختبئ رؤية تحليلية حادة للعالم.

يتحدث عن أمراض الكبد كما يتحدث عن أمراض السياسات،

يرى في الخلية التالفة صورةً مصغّرة عن أنظمة اختل توازنها، وانحرفت بوصلتها.

يؤمن أن الطب ليس علمًا تقنيًا فحسب، بل أداة لفهم الإنسان في لحظات ضعفه، وسؤال فلسفي كبير عن معنى الألم، وجدوى الشفاء، وحدود العلم.

وهو، كما بدا لي، من القلائل الذين لم ينفصلوا عن جذور المهنة، بل عادوا بها إلى عمقها الأول: حيث كان الطبيب في الحضارة الإسلامية حكيمًا، عالمًا، شاعرًا، وفقيهًا.. لا يُداوي الأجساد فقط، بل يُضيء العقول ويريح القلوب.

ما يميّز الدكتور الشناوي ليس فقط قراءته الدقيقة للتقارير الطبية، بل قدرته العجيبة على قراءة التعب في العيون، وتفكيك الصمت، واستشعار ما لم يُعبَّر عنه.

ينظر إليك كأنّه يرى داخل جسدك وخارجه،

يُلقي سؤاله الأول لا ليُجيب عليه، بل ليمنحك فرصة أن تكتشف نفسك من جديد.

وحين يتكلم، لا تسمع فقط كلمات طبيب يشرح، بل أستاذ يتأمل، ومفكر يربط بين تفكك الخلايا وتفكك المعاني في هذا العصر المزدحم.

رغم سنوات الممارسة الطويلة، لا يزال الدكتور حسن الشناوي مفتونًا بالمعرفة، متابعًا لكل ما يُكتب ويُكتشف في علوم الجهاز الهضمي والكبد،

يقرأ الدوريات العلمية الغربية، يناقش آخر ما طرحته المؤتمرات، ويطرح رؤى نقدية لا تجدها إلا لدى الباحثين الحقيقيين.

هذا الشغف لا تصنعه المناصب، بل تصنعه الروح التي لم تُهزم أمام الروتين، ولم تتعب من الحفر في العمق.

حين غادرت عيادته، لم أغادرها فقط وقد اطمأننت على صحتي،

بل غادرتها وقد شعرت أنني التقيت برجل يمثل ما نبحث عنه في حياتنا:

الصدق النبيل ، والاحتراف النقي، والرؤية الواسعة، والمهنية التي تسكنها الرحمة.

الدكتور حسن الشناوي ليس مجرد طبيب بارع في تخصصه،

بل هو ضمير حيّ يذكّرنا بأن المهنة بدون قلب لا تشفي،

وأن العلم بدون رؤية لا يضيء،

وأن الإنسان – في نهاية الأمر – هو الغاية، لا مجرد ملف على طاولة.