ذاك الماضي الذي يعاقبني كلما تنفست"
بقلم
فتحي درويش الضبع
تمر بنا الحياة مثل قطارٍ لا يلتفت، يترك خلفه محطاتٍ من الذكرى، وأرصفةً من الحنين، وأشخاصًا كانوا يومًا كلَّ العالم ثم رحلوا بصمت. ومع كل رحيل، تنكمش الروح، كأنها تودّ لو تعود لحظةً واحدة فقط، تمسك بأطراف الزمن، وتهمس في أذن الغائبين: "ابقَوا، فقلبي لا يعرف كيف يعيش بعدكم."
عشق الراحلين لا يُشفى، لا يذبل مع الوقت كما يظن البعض، بل يتجذر في القلب، يصير وجعًا دائمًا نلبسه كل صباح، ونتحاشى النظر في المرآة حتى لا نراه في أعيننا. هم لم يغيبوا تمامًا، بل تركوا شيئًا منهم في كل ركن، في كل طريق، في كل صوت.
الطرقات القديمة... آه من الطرقات! كم مررنا بها سويًّا ونحن نضحك، نتهامس، نحلم. اليوم أمشي وحدي عليها، كأن الأرض نفسها تفتقد خطواتهم. كل زاوية تحكي حكاية، كل حجر يحتفظ بسرّ، وكل ظلّ يُشبه طيفهم. الأماكن التي كانوا بها لم تعد كما كانت، رغم أن جدرانها كما هي، لكنّ الدفء رحل معهم.
حين أعود إلى تلك الأحياء التي كنا نزورها سويًّا، يطغى عليّ شعورٌ غريب، كأنني غريبٌ عن حياةٍ كنت بطلها. كأن الماضي يشاهدني من بعيد ويبتسم بحزن. أبحث في وجوه المارّة عن وجوهٍ كانت، عن ضحكةٍ أعرفها، عن صوتٍ يهمس لي باسمي كما اعتدت.
الزمن القديم لم يكن أجمل لأنه مثالي، بل لأنه كان مليئًا بمن نحب، بمن علّمونا كيف يكون العيش بسيطًا، صادقًا، دافئًا. كانت القلوب أنقى، والعيون أكثر صدقًا، والحديث أكثر دفئًا من شتاءٍ طويل.
في زمن السرعة هذا، لا زلت أؤمن أن الماضي كان وطنًا. والراحلين لم يكونوا أشخاصًا فقط، بل كانوا زمانًا ومكانًا وإحساسًا. لذلك حين نفتقدهم، نفتقد العالم بأسره.
كم أتمنى أن يعود الزمن قليلاً... لا لأصلح ما انكسر، بل فقط لأعيش معهم مرة أخرى، لحظةً واحدةً إضافية، أنظر فيها إلى أعينهم وأخبرهم كم أحببتهم... وكم لا زلت أفتقدهم.