مسيلمة الكذاب... بقلم الدكتور محمد كمال علام
صوفيا
في كل عصر واوان يظهر مسيلمة الكذاب بعد الرسول عليه السلام
ظهر مسيلمة الكذاب وبعد وفاة ناصر ظهر مسيلمةوبعد قيام ثورة يناير ظهر ايضاوالان ظهر
مسيلمة الكذاب في العصر الحديث: دونالد ترامب بين بيع الوهم وابتزاز الملوك
في كل عصر من عصور التاريخ، يظهر من يتقن فن الخداع السياسي، ويبرع في تسويق الوهم على أنه واقع، ويستغل حاجة الضعفاء ليحصد لنفسه مكاسب شخصية أو سياسية أو مالية. وإن كان مسيلمة الكذاب في زمن الرسول ﷺ قد ادعى النبوة ليكسب سلطة وجاهًا، فإننا في العصر الحديث أمام صورة محدثة من نفس النموذج، ولكن بثوب أمريكي فاقع الألوان… إنه دونالد ترامب، الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية
ترامب ومهارة ترويج الأوهام
عُرف دونالد ترامب قبل أن يدخل السياسة كرجل أعمال بارع في التسويق والبروباغندا، لا يُعنى كثيرًا بالحقائق بقدر ما يهتم بالتأثير. وعندما وصل إلى سدة الحكم، نقل هذه العقلية التجارية إلى إدارة العلاقات الدولية، وخصوصًا مع الدول العربية، متعاملًا معهم لا كشركاء أو حلفاء، بل كـ"زبائن" يمكن استنزاف أموالهم مقابل حماية مزعومة أو تحالف وهمي
ترامب لم يتردد في استخدام أساليب الصدمة والترهيب، مستخدمًا لغة واضحة في خطاباته
"ادفعوا لنحميكم
"لولا وجودنا، لما بقيت أنظمتكم أسبوعًا
"على دول الخليج أن تدفع ثمن حمايتنا
بهذه العبارات، لم يُخفِ ترامب نواياه، بل كان فخورًا بابتزازه المعلن، وكأن السياسة أصبحت صفقة تجارية يديرها من برج ترامب، لا من البيت الأبيض
بيع الوهم في صورة تحالف
تحت مسمى "صفقة القرن" و"التحالف الاستراتيجي"، باع ترامب مجموعة من الأوهام
السلام مقابل الاقتصاد: روّج لمشروع "السلام الاقتصادي" بدلًا من الحقوق السياسية للفلسطينيين، ونجح في إقناع بعض الدول العربية بالتطبيع مع إسرائيل على أمل وعود أمريكية بالاستثمار والدعم
تحالف ضد إيران: صوّر إيران كوحش قادم لابتلاع الخليج، وقدم نفسه كالمُنقذ، ليس حبًا في الخليج، بل بهدف توقيع صفقات سلاح بمليارات الدولارات
أمن مقابل صمت: وعد بعض الأنظمة بالحماية والدعم مقابل غض الطرف عن انتهاكات داخلية وخارجية، مستغلًا مخاوفهم من "الربيع العربي" ومن الشعوب
نجاح ترامب في خداع البعض
للأسف، وقع بعض القادة العرب في فخ هذا "المايسترو الكاذب"، ووقعوا اتفاقات مهينة للسيادة، ودفعوا أموالًا طائلة للحصول على دعم سياسي أو حمايات عسكرية وهمية
أمثلة على النجاحات
صفقات السلاح الضخمة مع السعودية: بلغت عشرات المليارات من الدولارات، وُقعت في أول زيارة خارجية له إلى الرياض، وافتُتح معها "مركز اعتدال" لمكافحة الإرهاب كغطاء رمزي
التطبيع مع إسرائيل: حصل ترامب على توقيع دول عربية (الإمارات، البحرين، المغرب، السودان) على اتفاقيات أبراهام، دون أن يقدم شيئًا جوهريًا للفلسطينيين
تحويل القضية الفلسطينية إلى صفقة اقتصادية: دفن حلم الدولة الفلسطينية المستقلة، وقلّص تمويل "الأونروا"، وحاول فرض رؤية أحادية للسلام
ولكن الوهم لا يدوم: فشله مع البعض
ورغم ما سبق، فإن نهج ترامب لم ينجح مع الجميع، بل اصطدم بجدران الصد والممانعة في عدة حالات
القيادة الأردنية: رفض الملك عبدالله الثاني صفقة القرن، ورفض المشاركة في خداع الفلسطينيين رغم الضغوط
القيادة الفلسطينية: قاطع الرئيس محمود عباس الإدارة الأمريكية ورفض كل أشكال التفاوض تحت رعاية ترامب بعد نقل السفارة إلى القدس
الرأي العام العربي: لم تنطلِ على الشعوب حيل ترامب، وخرجت مظاهرات رافضة للتطبيع والصفقات، ما حرج بعض الأنظمة المتحالفة معه
إيران نفسها: رغم سياسة "الضغط الأقصى"، لم تنهر إيران، ولم تدخل في حرب مباشرة، مما أحرج ترامب أمام حلفائه
ترامب بعد الرئاسة: نهاية البائع أم عودة جديدة؟
لم يغادر ترامب المشهد السياسي، بل بقي يحرض ويخطب ويهدد بالعودة. وربما ما زال يتواصل مع بعض الزعامات العربية من خلف الستار، يروّج لهم أفكارًا جديدة أو يلوّح لهم بكوابيس إذا لم يدعموه في عودته
وإذا عاد، فربما سيحاول من جديد ترويج ذات البضاعة الكاسدة: الوهم، الابتزاز، والتضليل. لكن السؤال الأهم هو
هل تعلّم العرب من تجربتهم مع هذا "المسيلمة الجديد"؟
دونالد ترامب ليس مجرد رئيس أمريكي سابق، بل هو ظاهرة سياسية مثيرة، تكشف هشاشة بعض الأنظمة أمام الوعيد الأمريكي، وتفضح استعداد البعض لبيع قضايا الأمة مقابل وعود لا تتحقق. وإذا كان التاريخ قد فضح مسيلمة الكذاب في نهاية المطاف، فإن الشعوب اليوم أكثر وعيًا، ولا تسقط بسهولة في فخ الخداع مهما تغيرت وجوه الكذابين أو جنسياتهم
مدير المركز العربى للدراسات والاعلام في صوفيا بلغاريا
