لماذا يموت كثير من أهل الفن فقراء ومعدومين؟

 


حين أطفأت الأضواء: فنانون رحلوا في صمت بعد أن أضحكوا الملايين

في لحظة ما، كانوا نجوماً تتلألأ أسماؤهم على واجهات السينمات، تُزين صورهم أغلفة المجلات، وتنتظر الجماهير إطلالاتهم بشغف. لكن حين أسدل الستار الأخير، لم يبقَ من البريق سوى الذكريات. رحلوا في صمت، محاطين بالوحدة أو المرض أو الحاجة، وكأن الأضواء التي صنعت مجدهم تخلّت عنهم في أحلك اللحظات.

إسماعيل ياسين: الكوميديان الذي مات مهموماً

صاحب الابتسامة التي ملأت قلوب المصريين فرحاً، لكنه عاش سنواته الأخيرة مثقلاً بالديون. بعد أن كان بطلاً لشباك التذاكر، خفت نوره مع تغيّر الزمن، فاضطر إلى تقديم عروض صغيرة لإعالة نفسه. وحين توفي عام 1972، لم يترك ثروة تُذكر، بل ترك سؤالاً موجعاً: كيف لرجلٍ أضحك الملايين أن يرحل مثقلاً بالهموم؟

رياض القصبجي "الشاويش عطية": ضحكة عالقة ووداع حزين

عُرف بملامحه الصارمة وصوته الجهوري في شخصية "الشاويش عطية" رفيق إسماعيل ياسين. خلف الكواليس، كان يعاني المرض والشلل النصفي، وانقطعت عنه الأعمال. عاش سنواته الأخيرة في فقر شديد، حتى أن أسرته عجزت عن نفقات علاجه ودفنه، فبقي جثمانه ساعات بلا مأوى.

زينات صدقي: سندريلا الكوميديا التي ماتت منسية

ضحكتها المميزة وصوتها الشعبي جعلاها أيقونة الكوميديا النسائية. لكنها بعد رحيل جيلها الذهبي، وجدت نفسها بلا أدوار، وبلا دخل ثابت. تقارير عديدة أشارت إلى أنها عاشت سنواتها الأخيرة في عزلة وحاجة، حتى إنها لم تجد نفقات العلاج. ماتت عام 1978 تاركة ذكرى حاضرة، وحسرة على إهمالها.

عماد حمدي: "فتى الشاشة" الذي فقد البصر والرفاق

كان يوماً فتى الشاشة الأول، لكن الزمن دار سريعاً. أصيب بالاكتئاب وفقدان البصر، وتدهورت أحواله المادية. مات عام 1984، لا كالنجم الذي عرفه الجمهور، بل كرجل أنهكته الوحدة، يراقب من بعيد فناً لم يعد يمنحه الأمان.

ما بين الأضواء والظل

قصص هؤلاء النجوم ليست مجرد نهايات فردية، بل مرآة لمهنةٍ تُعطي مجداً سريعاً لكنها لا تضمن مأوى في النهاية. في مصر، مثل كثير من الدول العربية، لا توجد أنظمة تأمينية كافية للفنانين، والنقابات الفنية عاجزة عن تغطية كل الحالات. والنتيجة: أسماء صنعت الضحك والدموع، لكنها ودّعت الحياة في فقر أو عزلة أو مرض.

الدرس الباقي

الموت الإنساني لهؤلاء النجوم يفتح الباب أمام سؤال لا يزال يطرق الضمير الجمعي: هل يُعقل أن يضحك فنان الملايين، ثم لا يجد ثمن دوائه؟

إنها ليست مجرد حكايات حزينة، بل دعوة لوضع سياسات تحمي مبدعي الفن، وتمنحهم كرامة تعادل ما منحوه من فرحٍ للمجتمع.

ولماذا يموت كثير من أهل الفن فقراء ومعدومين؟

الفنانون هم أيقونات الذاكرة الجمعية، نعيش معهم لحظات الفرح والحزن، نحفظ وجوههم وأصواتهم، لكن المفارقة الصادمة أن كثيرًا منهم يرحلون عن الدنيا في عزلة وفقر، وكأن الأضواء التي أحاطت بهم طوال حياتهم انطفأت فجأة بمجرد إسدال الستار الأخير.

قسوة المهنة وغياب الضمان

الوسط الفني قائم على "العرض والطلب"، فالموهبة وحدها لا تكفي لضمان حياة كريمة أو معاش آمن. الممثل أو المطرب قد يلمع فترة قصيرة، ثم ينحسر عنه الضوء بسبب تغير الذوق العام أو سيطرة وجوه جديدة. ومع غياب نظام تأمين صحي أو تقاعدي خاص بالفنانين، يجد الكثيرون أنفسهم بلا مصدر دخل عندما يمرضون أو يكبرون في السن.

البذخ ثم السقوط

يعيش بعض الفنانين حياة رفاهية وبذخ في فترات نجاحهم، دون حساب للمستقبل أو ادخار للزمن الصعب. ومع تراجع الأعمال، تتراكم الديون، وتتحول الشهرة إلى عبء لا إلى سند. كثيرون لا يتقبلون فكرة العمل خارج دائرة الفن، حتى وإن اضطروا لذلك، فيظلون أسرى البطالة المقنّعة.ن

تهميش بعد الأضواء

الفنان في مجتمعاتنا يُستدعى للبهجة لكنه لا يُعامل كصاحب مهنة تحتاج إلى رعاية مؤسسية. النقابات الفنية تؤدي دورًا محدودًا لا يغطي الاحتياجات الحقيقية لأعضائها، خصوصًا في أزمات العلاج. لذلك لا يندهش الناس حين يسمعون عن فنان قضى أيامه الأخيرة يبحث عن ثمن الدواء أو الطعام.

الاستثناء والقاعدة

صحيح أن بعض النجوم الكبار عاشوا حياة مترفة حتى رحيلهم، لكن الغالبية – خاصة من الممثلين المساعدين أو مطربي الصف الثاني – لم يعرفوا الأمان المالي. هؤلاء كانوا يملأون الشاشة والمسرح حضورًا، لكنهم يرحلون بصمت، تاركين خلفهم سؤالاً مؤلمًا: كيف لمن أضحك الملايين أو أبكاهم ألا يجد ما يسد رمقه في شيخوخته؟

دروس وعِبر

قصة نهاية كثير من الفنانين تحمل دروسًا للمجتمع وصناع القرار:

ضرورة وضع أنظمة تأمينية عادلة للفنانين تضمن لهم حياة كريمة بعد سنوات العطاء.

التوعية بأهمية إدارة الدخل والادخار للفنان نفسه، وعدم الركون إلى شهرة قد لا تدوم.

إدراك أن الفن ليس ترفًا بل صناعة ضخمة، تستحق أن تحاط بالرعاية مثل غيرها من المهن.